بشير صفير
لم ينسَ العارفون حقّاً بالموسيقى الكلاسيكية أداء السكيرزو رقم 1 لشوبان، منذ أدرجه عازف البيانو اللبناني الشاب فيليب الحاج ضمن برنامج أمسية قدّمها في مسقط رأسه جبيل في شباط (فبراير) 2003. الحفلة كانت عادية نسبةً إلى التسجيلات الكبيرة، لكنّ أداء معزوفة شوبان الصعبة تقنياً في شقّيها الأوّل والأخير، والخطيرة رغم سهولتها في جزئها الأوسط، أتى بمستوى كثير من التسجيلات العالميّة.
وبعد دراسة معمّقة لآلة البيانو وأصول الموسيقى والعزف الكلاسيكي تلتها حفلات عدة، مال فيليب الحاج صوب الجاز، ودرس قواعده منذ 2004. هذا التحصيل المزدوج، انطلق منه ليقوم بخطوته الأولى تجاه الجاز الذي أصدر ضمنه أسطوانته الأولى. إلا أنّ باكورته جاءت لتخيّب آمال جمهور الجاز، فيما كانت الخسارة الأكبر من نصيب المهتمّين بالموسيقى الكلاسيكية، إذ إنها كانت لتحقق نجاحاً كبيراً لو جاءت كلاسيكية. أما ألبومه الجديد «جاز شرقي» الذي يحوي عشر مقطوعات موسيقية، فلا ينتمي بهوية مكتملة لا إلى الجاز ولا إلى الشرقي... ولعل تصنيفه بالجاز الشرقي ليس دقيقاً. من جهة أخرى، ولحسن الحظ، لم يعتمد فيليب الحاج توليفاً جازياً لكلاسيكيات شرقية (باستثناء “البنت الشلبية”). تلك الموضة التي باتت طاغية على التجارب البديلة في الوطن العربي، والتي تفضح إفلاساً في خلق الجملة اللحنية الجديدة والجميلة.
أتت محاولة الحاج لتدلّ فعلاً على قدراته في التأليف، عاكسةً شخصيةً خاصة، ولو أنّها اتسمت بتفاوت بين مستوى التأليف الذي دلّ على خبرة طرية في هذا المجال ومستوى الأداء الذي جاء عالي التمكّن، وانعكس دقة في التنفيذ من فيليب وأعضاء الفرقة الأربعة. لكنّ هذا التمكّن التقني هو سيف ذو حدين. لقد تجلّى، بأفضل مظاهره، في الجمل المكتوبة... في حين كبّله الارتجال. وهذه الملاحظة تشمل البيانو والهوبوا (أوريلي موزر الحاج، زوجة فيليب) اللذَين أتت ارتجالاتهما ضعيفةً، مضبوطةً بقواعد الموسيقى الكلاسيكية الصارمة، حيث أبدع، فعلاً، عازف الساكسوفون (داميان هنيكر) في ارتجالات متقنة تنمّ عن طول باع أكيد في عالم الجاز. فيما تأرجحت الإيقاعات (واندر بيو) كما الكونترباص (فلوي كروشي) بين تلعثم وإتقان.
ارتجالات الحاج فيها تأثّر واضح بالموسيقى الكلاسيكية، إذ استعاد، بلا قصد، من جعبته السابقة، باخ وليست والانطباعية الفرنسية والكتابات الكلاسيكية الحديثة. هكذا جاءت مقطوعة Beyond Words التي جمعته بالإيقاعات، نقطة قوة، أفلتت من هفوات الارتجال. بينما مال الهوبوا في ارتجالاته القليلة إلى التعبير الحزين المحمّل بالأحاسيس المناسبة لنبرة هذه الآلة، وتولّى في محطات عدّة الجمل اللحنية الرئيسة.
ومع انتهاء الجملة اللحنية في «البنت الشلبية»، قبيل دخول الارتجالات الموفّقة (ساكسوفون خصوصاً)، يطرأ تسريع طفيف إنما نافر للإيقاع... وهو غير مبرّر، كان يُفضّل تفاديه إن كان مقصوداً. أمّا أجمل لحظات الألبوم، فشكّلها جسر بين شقّي مقطوعة 94 Saint Germain، على غرار الجاز التجريبي والموسيقى الكلاسيكية الحديثة حمل بصمات الساكسوفون والبيانو.
أما النفحة الشرقية فكانت أكثر ظهوراً فيPurple Song، إضافة طبعاً إلى «البنت الشلبية» التي كتب فيها الحاج مرافقةً جميلةً وبسيطة لليد اليسرى، ثم عاد فاعتمدها في جزء من Beyond words. فيليب الحاج موهبة كبيرة في العزف الكلاسيكي على البيانو. هل يحسن توظيف هذه الميزة الإضافية في تجربته «الجازية» المقبلة؟ أم يعود إلى الحقل الذي يملك مفاتيحه؟ الخيار يتطلّب جرأة أكيدة... المهم أن يتخلص هذا الموسيقي من ازدواجية تنعكس على كلا النمطين ضعفاً وبهتاناً.