strong>محمد شعير
•الرواية المصريّة الشابــة تتصالــح مع القضايــا الكبــرى
الفائزة بـ«جائزة نجيب محفوظ» هذا العام، تنتمي إلى جيل جديد من الكتّاب في مصر. أمينة زيدان التي يعيد الجمهور اكتشافها للمناسبة، تدخل الرواية من باب السياسة بعدما انفضّ عنها الأدب في السنوات الأخيرة. روايتها المتوّجة «نبيذ أحمر» (دار الهلال)، تدور أحداثها بين حربي السويس وأكتوبر...
عندما رحل شقيقها الأكبر، كان في العشرينيات ولم يترك إلا أوراقاً قليلة ضمّت قصائد شعرية، وخواطر نثرية. كانت الطفلة التي لم تتجاوز الـ12 من العمر، تعود إلى هذه الأوراق وتسأل نفسها: «ماذا ستفعل بها؟». وجدت نفسها تذهب مباشرةً إلى هذه الأوراق كلّما شعرت بالحنين إلى شقيقها. هكذا أدركت أنّ الكتابة من شأنّها أن تتغلّب على الغياب، فبدأت تحلم بأن تصبح «كاتبة».
أمينة زيدان (1967) كاتبة من السويس، «سويسية» كما تحب أن تطلق على نفسها. وقد ظهرت في المشهد الثقافي منذ سنوات، بعد حصولها على جائزة «أخبار الأدب للقصة القصيرة» أواسط التسعينيات من القرن الماضي. ثم اختفت مجدداً، ولم تعد للظهور إلا أخيراً، في مناسبة حصولها على «جائزة نجيب محفوظ للرواية»، عن روايتها « نبيذ أحمر» (دار الهلال) التي أثارت اهتماماً نقدياً فور صدورها قبل أشهر.
إنّها لعبة الزمن والمصادفات. فجائزة القصة القصيرة التي حصلت عليها في بداية مسيرتها الأدبية، تسلّمتها من نجيب محفوظ نفسه. وبعد 14 سنة، عادت لتفوز بجائزة تحمل اسمه، تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة سنوياً في ذكرى ميلاد عميد الرواية العربية. محفوظ بالنسبة إلى أمينة زيدان «يمثّل حالة خاصة غريبة في الكتابة، لها فلسفتها الخاصة وبناؤها المستقل عن الإبداع الروائي السابق. ومن هنا فإن جائزة تحمل اسمه دليل على أنني أسير في الطريق الصحيح».
«هكذا يعبثون»، كانت الرواية الأولى لأمينة وسبقتها مجموعتان قصصيتان «حدث سرا» و«فوضى». ثم جاءت «نبيذ أحمر» التي تصفها بأنّها «حدوتة عن فلول جيل كامل من المهزومين والمحاصرين تحت مظلة تركيبة اجتماعية لكل الأنماط الروائية لهذا الجيل». ربما لهذا السبب تعجز الكاتبة الشابة عن تصنيف روايتها. هل هي رواية عن التاريخ أم عن المكان؟ أم عن الذات؟
تجيب أمينة زيدان: «هي رواية عن كلّ ذلك. ترويها ذاتٌ متفاعلة مع المكان والتاريخ المعاصر والزمن. لو قررت أن أصنِّفها، لقلت إنّها جغرافيا إنسانيّة تراقب تحوّلات الواقع».
لكن لماذا اختارت فترة تهجير سكّان مدينة السويس بين نكسة 67 وحرب أكتوبر ١٩٧٣، إطاراً زمنياً لأحداث الرواية؟ تضحك: «إنها حكاية بسيطة. كنت أزور صديقة لي في بلد استقبل المهجّرين أثناء الحرب. كانت صديقتي تتحدّث عن امراة أخرى لا تحبّها. وأرادت صديقتي أن تسبّها فوصفتها بأنّها تعيش «حياة المهجرين». هذا الحدث البسيط أثار في داخلي ذكريات بسيطة، وحكايات مبكية عن أولئك المهجّرين. روايتي في الأصل هي تجربة ذاتية استقرّت في مكان واضح من الذاكرة. وكان عليّ أن أتخلّص من عبئها بالكتابة، وأردّ على صديقتي بالحكاية كاملةً».
كيف استطاعت الكاتبة التي كانت في طفولتها الأولى آنذاك، أن تختزن كل تلك التفاصيل التي امتلأت بها الرواية؟ تجيب: «الكتابة أطلعتني على حقائق مروعة، تتعلق بالذاكرة التي تحمل كل ما مرّ بحياتك من أصوات ومشاهدات وأحلام. وغالباً، لا يكون لك خيار استدعاء ذكرى دون غيرها. لكن أثناء الكتابة، ينهمر نوع من الذكريات لا يخص الكاتب وحده، بل كثيرين غيره. هذا النوع من الذكريات تستطيع كروائي نسجه لتتحقق ذكرى واحدة كاملة. ربما فعلاً كنتُ صغيرة وقت الحرب، لكنّ ذاكرتي ظلت وما زالت تحمل ذكريات موجعة عنها وارتبطت معي بأحداث تالية».
ليس التهجير وحده موضوعاً لرواية أمينة زيدان. الأهم هو دخولها منطقة ألغام هي علاقة المثقفين بالتنظيمات السرية، وتأثير ذلك عليهم وعلى قناعاتهم الفكريّة. لماذا اقتحمت هذه المنطقة الشائكة وطرقت موضوع «خيانة المثقفين»؟ تجيب: «هذا الجزء من الرواية كان شائكاً جداً بالنسبة إليّ. لكنّ الأغرب كان رد فعل الأصدقاء ممن كان لهم دور تنظيمي. إذ أكّدوا أنّني اقتربت من الحقيقة في معالجتي للمسألة».
وتستدرك أمينة: «لكن في المقابل كشف لي نقد التجربة عن نماذج حقيقيّة لم تقع في أخطاء النظرية. المسألة برمتها تتلخّص في أنّنا نحيا في واقع يحمل ثقافات متشابكة، ويصعب اختراقه بغير فهم وقراءة عقلية. لا يمكنك أن تأتي بأفكار جاهزة وتفرضها على المجتمع دفعةً واحدةً وتطلب منه أن يصدقك، فيما أنت تعاني أساساً عدم فهم لجوهر الفكرة وارتباطها بطبيعة مجتمع مختلف عن مجتمعنا. حاولتُ أن أقول إنّ الماركسية كانت تحتاج إلى تمصير لكي يتقبّلها المجتمع طبقاً لأولوياته. أمّا الرأسماليون، فقد نجحوا في تحويلنا إلى مجتمع استهلاكي، ما أدّى إلى نكبة اقتصادية حقيقية». تصمت أمينة زيدان، ثم تبتسم وتضيف: «على فكرة، انتُخِبتُ عضواً في اللجنة المركزية لحزب التجمّع، لكنّني لم أجد ما أفعله هناك».
ربما لهذا السبب، غيّرت سوزي بطلة «نبيذ أحمر» موضوع رسالتها للماجستير من «صورة البطل في الرواية» إلى «صورة يهوذا في الرواية». هل أرادت أن تقول إنّ التاريخ يغصّ بالخيانات أكثر من الأبطال؟ لا توافق أمينة على هذه القراءة: «شخصية يهوذا وُظِّفت في معظم الثقافات كدلالة ثابتة على الخيانة. لكن هناك مخطوط كُشف عنه أخيراً ما زال قيد النقاش، يُظهر على ما يبدو أنّ ما قام به يهوذا كان بالاتفاق مع المسيح. وتخلّي سوزي عن موضوعها الأساسي كان بهدف اكتشاف حقيقة غياب حبيبها أندريا، وما ألمّ به من تحولات. كانت لدي رغبة شريرة في القضاء على ما أسبغته سوزي على أندريا من تصوّرات. التاريخ يفرز الخير والشرّ بشكل متفاوت، لكنّه لن يكشف عن كل حقائقه دفعةًً واحدةً».
رأى العديد من النقاد أنّ «نبيذ أحمر» رواية مغايرة لما يعلنه الكتّاب الجدد من أفكار وتنظيرات بشأن «أدب الجسد» مثلاً وسواه من الطروحات السائدة... بل إنّ بعضهم صنّف الرواية باعتبارها عودةً إلى الموضوعات الكبرى التي تخلّت عنها الرواية. أمينة زيدان كاتبة من خارج جيلها؟ تضحك مجدداً: «لا يمكن التعامل مع الكتابة الإبداعية وفق تصنيفات نقدية جاهزة، ومنقولة من ثقافات أخرى. وهذا ليس حكماً معيارياً، لكن كيف للموضوعات الكبرى أن تنتهي، ما دام الجزئي والخاص والحميم، هو ـــــ في النهاية ــــ بعضٌ من الكوني والعام؟».




strong>هذه المُدام... فأين الجِمال؟

عندما حصلت أمينة زيدان على جائزة نجيب محفوظ، بعث زوجها الأميركي رسالةً إلى شقيقه يزفّ فيها النبأ السعيد، وأوضح له أنّها فازت بالجائزة عن روايتها «نبيذ أحمر»... رد عليه شقيقه متسائلاً: «وهل يشرب العرب النبيذ وهم يقودون الجمال»؟ ضحكت أمينة عندما عرفت بالأمر، وتمنّــت على زوجها لو يوضح لأخيه أنّ لدينا جمالاً مكيّفة!
أمينة تلتمس العذر لشقيق زوجها: «هو مثل كثيرين في الغرب، لا يعرفون شيئاً حقيقياً أو واقعياً عنّا. يظنون أنّنا مجتمعات وحشية وغير متطوّرة اجتماعياً». الكتابة، وتحديداً الرواية، قادرة على تغيير هذه النظرة أو هكذا تتمنّى أمينة. لكن أليس هذا انحيازاً للفن الروائي؟ تجيب: «لا، لكن لأنّ الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر انتشاراً في الغرب».
لماذا اختارت «نبيذ أحمر» تحديداً عنواناً للرواية؟ تجيب إنّ مفردة ظلّت تلحّ عليها طويلاً أثناء كتابة النص، «تكررت مرات متعددة طوال النص، مرةً دلالة على الدماء التي تملأ الشوارع وقت الحرب، ومرةً دلالة على الكأس التي تشربها البطلة سوزي مع حبيبها فتطير بها إلى السماء. وأحياناً لتدلّ على زجاجة مهملة مثل سوزي تماماً فتقرر أن تفتحها لتشرب منها».
حكاية أمينة مع عنوان الرواية كانت شاقة. وهي خشيت عندما انتهت منها أن يرفض الناشر الحكومي «دار الهلال» العنوان، فاقترحت تخفيفه إلى «نبيذ أحمر في صحة الحصار»، لكنّها فوجئت بإصرار الناشر على الاحتفاظ بالعنوان كما هو. هكذا صدرت الرواية بالعنوان الذى تمنّته الكاتبة.
الناقد حاتم حافظ يرى أنّ العنوان نفسه يرتبط باللغة التي كتبت بها أمينة نصها: «اللغة مجازية جداً تفجّر المفارقات، تكشف أنّ الواقع ليس أبداً لغة حكايته. بين الواقع نفسه وحكاية الواقع، بين التاريخ وسرد التاريخ مفارقة بطول العالم وعرضه».