strong> نوال العلي
• «مسرح البلد» الأردني شرّع أبوابه لرواة العالم

يا سادة يا كرام... عليكم السلام، وعلينا الأمان! اليوم لم يعد «العرض» يبدأ بالطريقة نفسها: لقد تطوّرت تقنيات الحكواتي التقليدي لتشمل مختلف الفنون المشهديّة. «ملتقى حكايا السنوي» استضاف هذا العام ناديا كامل ورفيق علي أحمد وآخرين

على مدى خمسة أيام، استحال «مسرح البلد» المعروف الذي يشرف عليه الفنان رائد عصفور في عمّان، محجة للحكواتيين والرواة، وموئلاً لفنون القص والتقاليد الشفهيّة التي تحتلّ مكانة أساسيّة في الاحتفال المشهدي، عربياً وعالميّاً. كان ذلك من خلال «ملتقى حكايا السنوي» الذي أسدل الستار عليه أمس في العاصمة الأردنيّة، ونظمه «مسرح البلد» بالاشتراك مع جمعيات ومؤسسات مختلفة، بينها «الملتقى التربوي العربي»، و«المركز العربي للتدريب المسرحي»، وMS/Denmark، بدعم من «مؤسسة آنا ليندت للحوار المتوسطي» ومكتب الأونيسكو (الأردن) و«مؤسسة فورد».
تعاقب على الخشبة، أمام جمهور شغوف بفنّ «الحكي»، فنانون وفرق من مصر وفلسطين وسوريا وتونس ولبنان وفرنسا والدنمارك. وشمل البرنامج عروضاً متجوّلة للحكّائين، وعروضاً مسرحية أو راقصة تمحورت حول «القصة الشخصية» وقصص الناس. كذلك أقيمت لقاءات متنوّعة حول فنّ الحكاية وروايتها.
لكنّ الغريب أن تتمثّل رؤيا «ملتقى حكايا» في النظر إلى «مركزيّة القصّة في التعلّم واستخدام الحكي للتشجيع على القراءة والتعبير ومحو الأمية في العالم العربي»... فتلتبس هذه العبارة من حيث ارتباط الشفهي بالمكتوب فيها، وكونها تحمل أحلاماً وأهدافاً كبيرة، وخصوصاً في ما يتعلّق بمحو الأمية. ألم تكن تلك الأخيرة سبباً أساسياً في وجود الحكواتي؟ وأليست الحكاية أصلاً أدباً شفهياً ضلّ طريقه إلى التدوين؟ وهذه الشروط والظروف كلّها ألم يُتح لها التطوّر والتغيّر من دون سياق محكم؟ لقد جعلت آلية النقل الشفهي توثيق الحكاية أمراً متعذّراً، بما أتاح للحكواتي أن يغيّر في الشخصيات والأحداث كل مرة يروي فيها القصة عينها.
وفي ظل وجود واقعيّات كثيرة بدءاً من الواقع الافتراضي والسينمائي والتلفزيوني والمكتوب والمعيوش، هل من الواقعي حقّاً أن تعود الحكاية الشفهية لتأخذ مقعداً لم يعد شاغراً لها أصلاً؟ أم أنّ تقديم هذا الفن مطعّماً بالمسرح والسينما سيجعله مستساغاً؟ وفي هذه الحالة، هل يظل مبدعه حكواتياً أم يصير حكواتياً مسرحياً وربما حكواتياً سينمائياً؟ هذه بعض الأسئلة التي يطرحها المهرجان، بمعزل عن عروضه القيّمة في معظمها، والتي تحمل متعة الفرجة والمؤانسة المشهديّة.
والمعروف أن المسرح العربي عند مفترق الحداثة أطلق رهانات واسعة على الأشكال الاحتفاليّة والسرديّة والشفهيّة، بوصفها عناصر بحث عن أصالة وخصوصيّة إزاء المسرح الغربي. في النصوص نشير إلى توفيق الحكيم ويوسف إدريس وسعد الله ونّوس وعبد الكريم برشيد... وتكثر التجارب التطبيقيّة، من روجيه عسّاف (مسرح الحكواتي اللبناني) إلى فرنسوا أبو سالم (فرقة الحكواتي المقدسيّة ـــــ فلسطين)، مروراً بالطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد (المسرح الاحتفالي ـــــ المغرب)، والراحل عبد القادر علّولة (تعاونيّة أول مايو في وهران ـــــ الجزائر)، فضلًا عن أعمال شريف الخزندار وفرنسواز غروند النظريّة والإبداعيّة في هذا المجال (بين فرنسا والعالم العربي)...
أما اليوم، فقد تحوّل المسرح العربي إلى مرحلة «الفنون المعاصرة»... لذا نسأل: هل يُعوّل على رؤيا ملتقى الحكايا في المستقبل القريب أو البعيد؟ خصوصاً أنّ القيّمين على المشروع يأخذون نواياه على محمل الجد، بدليل الرغبة في الاستمرار وتكوين شبكة «حكّائين بلا حدود» وإقامة ورشات عمل مفتوحة للحكائين وتطوير موقع إلكتروني للمشروع.
في الواقع، العروض التي قدّمها «مسرح البلد» انحازت إلى المكتوب، إذ اختلط فنّ الحكواتي بالفنون الأخرى، وانتقلت شخصية الحكّاء من كونه شخصاً يتداول إبداعاً جمعياً ـــــ أسطورة وخرافة وفولكلوراً شعبيّاً ـــــ إلى مبدع يقدّم تجربته الخاصة والذاتية، ويتيح أحياناً للجمهور أن يطرح تساؤلاته ويتدخّل في رواية القصة، ليَجمع بذلك بين ما يسمّى المسرح التفاعلي... وبين محاولة مبتكرة لتحويل الفردي إلى جمعي. أي إن الملتقى يقترح نفسه مختبراً لتطوير تقنيات الحكواتي وتوظيفها عنصراً بين العناصر الأخرى للفرجة.
وهذه الفكرة جسّدتها مسرحية الفلسطينية دنيس أسعد «قصص من قيساريا» التي قصّت فيها «حدوتة» قرية قيسارية لدى وقوعها تحت الاحتلال عام 1948، بدءاً من حكايات والدها عندما كان طفلاً. من هنا، نلاحظ محاولة امتداد الحكواتية إلى أكثر من جيل، لإضفاء ذلك البعد الجمعي على قصّة فردية، ويعد شرطاً من شروط فنّ القص الشفهي نفسه. وهي بذلك تكون فنّاً طاله التغيير مثل باقي الفنون. بل إنّه قد يكون أحد أكثرها تغيّراً في أصوله وأساسياته. أما المصريّة ناديا كامل فقدمها الملتقى بصفتها حكواتيّة من نوع آخر، من خلال السينما. شريطها الوثائقي «سلطة بلدي» ـــــ الذي واجه حملة من الانتقادات في مصر، بتهمة الترويج للتطبيع، وأحيلت مخرجته إلى التحقيق في نقابة المهن السينمائية في مصر ـــــ «يروي» الحكاية على لسان جدّة تقص على حفيدها تفاصيل 100 عام من الزيجات المختلطة، جعلت من هذا الحفيد مصرياً وفلسطينياً وإيطالياً ولبنانياً وقوقازياً في الوقت عينه. من هنا انطلقت ناديا لتصبح حكواتية تسرد بالكاميرا قصة جدّتها التي تلعب الدور عينه في الفيلم. وقد عالجت المخرجة (نترك النقاش السياسي لفيلمها إلى عجالة أخرى)، أسلوب الحكواتي من خلال بعده البصري، ومكانته بين الفنون الحديثة.
خلال مناقشة الفيلم، تناولت ناديا كامل مسألة رواية السيرة الشخصية، وتداخل «الحقل البصري للكاميرا داخل الكادر، والمجال غير المرئي وراء الكاميرا». فهي المخرجة وهي صاحبة الحكاية... أين يقف دورها مؤلفةً ومخرجة، ويبدأ دورها حكواتية إذاً؟ أين يقف الحكواتي بين واقع صاحب السيرة وحامل الكاميرا؟
والحديث عن السينما يقود بالضرورة إلى المسرح الذي حضر في «ملتقى حكايا» من خلال تجربة رفيق علي أحمد. هذا الممثل اللبناني الذي كان في الثمانينيات من أركان «مسرح الحكواتي» مع روجيه عساف وحنان الحاج علي ورفاقهما، قدّم «جرصة»، عمله الكوميدي المونودرامي، النقدي والساخر، وفيه يستعيد تقنيات المسرح السياسي، مازجاً إياهاً بمتعة فنّ الراوي الذي يجيده بمهارة.
في عرض «جرصة» الذي اختتم الملتقى، ينطلق رفيق، بلسان المتكلم، من سيرة الفشل الجنسي وصولاً إلى الفاشل الفني والإنساني والنفسي في بلد متصدّع يحكمه المنطق الطائفي، ويضيق بأبنائه ولم يعد يتسع للفنّ الراقي والإبداع...
هكذا، لم يعد بطل الحكايات الشفوية يقدَّم بالمعنى المألوف والإيجابي والبطولي للكلمة، بل تغيّر موقعه وتفاصيله في الحدوتة التي يقدمها حكواتيو الملتقى، ولم يعد يدخل تجارب خاصة ليخوض في المغامرة والمجهول بقدراته الخاصة والهالة الأسطورية المحيطة بشخصه. فهو ابن زمانه، عادي مطحون وقلق ومهمّش يتعرّض لشتّى أنواع الاضطهاد أيضاً. أما حكايته، فلم تعد تمجّد البطولات العظيمة، ولم تعد تفضي إلا إلى الفراغ وغياب الحلول.

www.hakaya.org