strong>رنا حايك
لا بدّ لمن تجوّل في شوارع العاصمة بيروت خلال الأيام التسعة الماضية أن يكون قد لاحظ دبيب حركة وحيوية غير اعتيادية في المناطق التي يقطنها أبناء الطائفة الشيعية. فأبناء هذه الطائفة يحتفون هذه الأيام بذكرى عاشوراء، يتّشحون بالسواد حداداً على أهل البيت، يقيمون يومياً مجالس عزاء تسترجع تفاصيل واقعة كربلاء التي قضوا فيها، ويطبّقون الحديث النبوي الذي أوصى بالإطعام بوصفه أحد موجبات المغفرة: «ثلاثة من موجبات المغفرة: إطعام الطعام وإفشاء السلام والقيام بالليل والناس نيام».
في موسم عاشوراء، يطبخ الشيعة «الهريسة» ويوزعونها، كذلك يوزعون العصائر و«البسكوت والراحة». ورغم حالة الحزن التي تحيط بأجواء الذكرى الكربلائية، فإن ممارسة طقوسها تشيع حالة من الحميمية بين الجيران في الحي وعابري السبيل فتضفي بعض الدفء الإنساني على شوارع المدينة التي تنضح برسوخ القيم الفردية.
يتحلّق الشبان والصبايا في خندق الغميق حول «الخلقينة» وهي الحلة الكبيرة التي تصنع فيها الهريسة. يلقّمون النار بالحطب و«يدعكون» الطبخة حتى لا يلتصق القمح بالقعر ويحترق. بعضهم يسهم في المال على قدر استطاعته، وبعضهم يعجز عن ذلك فيسهم بسواعده في إعداد الطبخة وتوزيعها على الجيران وعلى المارة. يطبخون خمسين كيلوغراماً من القمح و25 كيلوغراماً من الدجاج يومياً لمدة تسعة أيام، «يؤاجرون» في إعدادها لـ«يكسبوا الثواب»، ويستعينون بخبرات النساء المطبخية لإتمامها.
يرجع تاريخ «الهريسة» بحسب الروايات، إلى واقعة الطف عام 61 من الهجرة، فبعد تلك الواقعة، وقع من بقي حياً في الأسر، وكانت زينب بنت الإمام علي من بين السبايا، فعمدت إلى جمع الحبوب المبعثرة في الخربة التي أسرت فيها مع عائلتها وطبخها لإطعام الأطفال الذين أنهكهم جوع الأسر. إلا أن بعض الروايات الأخرى ترجح أن تكون الهريسة طبخة عرفها العرب قبل الجاهلية، سميت «السويق». مهما كان أصلها، ورغم اختلاف طريقة إعدادها والأسماء التي تطلق عليها (العاشورية والحبية والشلة في العراق و آش في إيران) من بلد إسلامي إلى آخر، فإن الهريسة ترتبط اليوم بذكرى عاشوراء وتعدّ وتوزّع عن روح أهل البيت.
وعامة، يرتبط الإطعام في التراث الديني بالمآتم، إذ يوزعه ذوو الفقيد عن «روحه» ويترجم إكرامهم لذكراه. ولهذا التقليد منبع ديني، إلا أن الممارسة الاجتماعية هي التي رسّخته مع مرور الأيام.
تؤكد زينب عيسى، المستشارة في علم النفس ومديرة جمعية السيدة زينب الخيرية التي اعتادت إقامة مجالس العزاء والهريسة يومياً في مقر الجمعية في كليمنصو، على ارتباط الإطعام عن روح الميت بتكريمه: «فمع تدهور أحوال الناس الاقتصادية وانتشار الفقر، أفتى بعض رجال الدين بإقامة ذكرى الأسبوع عن روح الميت بعد الظهر تفادياً لإحراج العائلات التي تعجز عن إقامة الولائم عن روح أمواتها».
أما خلال عاشوراء، فيجتهد الشيعة للقيام بواجباتهم الدينية بقدر استطاعتهم. بعضهم يعجز عن إعداد الهريسة باللحم فيعدها بالدجاج، وبعضهم يستعيض عنها بتوزيع أي غذاء آخر ولو كان ملحاً فقط.