نقولا ناصيف
في «لعنة القصر» (الريس) يستعيد الصحافي غسان شربل سيرة الياس الهراوي، ونبيه بري، ورفيق الحريري، وميشال عون. أربعة رؤساء كان القصر مصدر قوتهم، واللعنة التي لاحقتهم... إلى النهاية!


يرةً أمنيةً لرجال صنعوا من الأمن في لبنان قصةً سياسيّةً، لها أبطالها الرئيسيون والثانويون، ولها مسرحها واستحقاقاتها وضحاياها، ولها خصوصاً نجاحاتها وانكساراتها. وها هو الزميل غسان شربل، يستعيد في كتابه الجديد «لعنة القصر» (دار الريس) قصة مماثلة عن أربعة رؤساء، هم الياس الهراوي ونبيه بري ورفيق الحريري وميشال عون، كان القصر مصدر قوتهم، واللعنة مكمن ضعفهم. كتاب يروي الأحداث التي تصنع الرجال، إذ صدف أن وقفوا عند مفترق تاريخي، وضعهم وجهاً لوجه مع أقدار وطنهم وأقدارهم هم أيضاً وحتى سلامتهم. فإما يقودونه إلى سلامه، أو يتركونه على فوهة بركان.
مذ سجّل غسان شربل ـــــ ضمن سلسلة «يتذكر» في مجلة «الوسط»، ثم في جريدة «الحياة» التي يرأس تحريرها حاليّاً ـــــ ولأشهر طويلة، تاريخ الحرب اللبنانية بلسان رجالها ولاعبيها الرئيسيين، كان يتدارك ـــــ وفي ظني يتنبأ ـــــ بأنّ ثمّة مَن سيكتب هذا التاريخ كما كان يريده هو أن يكون. أو ربّما ثمة مَن لا يريد أن يكتب، كي يترك تاريخ الحرب غارقاً في الشائعات والتكهنات والاحتمالات والتقويم الملتبس وفوضى الاستعارة والتجاهل، وحتى التضليل. وهذا الأخير تتساوى فيه المعلومات والإهمال. وفي ظني أيضاً أنّ حدس غسان شربل ـــــ كأي صحافي يحدس بالتاريخ لا بالوقائع الصغيرة والأبطال الهامشيين ـــــ كان في مكانه.
ما أن انتهت الحرب ـــــ أو هكذا قال العرب والمجتمع الدولي للبنانيين ـــــ حتى طافت على سطح الحاضر سيَر وكتب أرّخت جوانب من سني العاصفة اللبنانية، كان يكتبها كل بمفرده، وراء طاولته أو في حديقته أو في صالونه أو الطائرة، من أجل أن يبرئ نفسه، ويروي حكايته هو في المحنة لا المحنة نفسها التي قادت ولا تزال شعباً ووطناً إلى القدر الغامض. لا يكون القدر إلا غامضاً، لكن اللاعبين فيه قادرون على الأقل على أن يخلعوا عنه هذا القناع. أن يجعلوه أحياناً معروفاً وأليفاً ومحتملاً، أو في أبسط الأحوال ألا يدعوه يسوقهم إلى حيث لا يدركون. بذلك، اختصر غسان شربل، في تقديمه للكتاب، ما يريده له، وهو «التذكير بمحطات وأدوار وروايات تكشف موقع المتحدّث ونهجه وخياراته. ولعلّها تطمح إلى أن تضع مادة ما في تصرّف أي باحث مدقق أو مؤرخ».
لم يترك غسان شربل لمحاوريه أن يقودوا الحوار إلى حيث يفضّلون أن يتجمّد، من أجل أن يدوروا في فلك أنفسهم... بل كتبت «لعنة القصر» سيرة هؤلاء عندما كانوا في قلب الحدث وعلى هامشه. يجرجرهم الحوار الطويل، النابض والمتحرك، كي يرفضوا ويستنكروا، ويعترفوا ويصدّقوا، ويذعنوا وينفوا، ويحتجّوا ويصحّحوا، ويرووا ويكذبوا...كي يقدّموا قراءة لتلك الأحداث، لا القراءة الوحيدة والمتفرّدة، ولا القراءة الأخيرة. وهكذا يضعهم حوارهم مع المؤلف وكأنهم في معرض مقارنة ما كانوا يعرفونه بما كان يعرفه سواهم. في هذه السيرة كان على الرؤساء الأربعة، وهم يروون قصصهم، أن يدافعوا عن أنفسهم ويردّوا التهم ويوجّهوا أخرى، لا أن يكتفوا بالتبرير.
حكى «ذاكرة الاستخبارات» سيرة رجال ساقوا القدر اللبناني في المحطات الأكثر تدفقاً على المجهول. نجحوا أحياناً، وأخفقوا في أخرى. لكن كلًّا منهم ـــــ وهو يصوغ قدره من خلال مهنته التي يتساوى فيها القانوني واللاقانوني ـــــ كان يسهم في صنع قدر بلاده. «لعنة القصر» رواية مختلفة: أربعة رؤساء ساقهم القدر إلى حيث يريد هو. كل منهم قادته المصادفة التاريخية إلى المكان الذي كان يحلم أن يكون فيه قبلاً: حلم الهراوي أن يكون رئيساً للجمهورية قبل سلفه الرئيس رينيه معوّض، كي يكون هو الأب الفعلي لاتفاق الطائف لا الساهر على تشويه تنفيذه. وكاد بري يصير رئيساً للمجلس عام 1985، والحريري رئيساً للحكومة قبل أن تستغيث به الليرة عام 1992، وعون رئيساً منتخباً للجمهورية قبل أن يغدر به الفراغ الدستوري عام 1988. وهكذا لم يأت أي منهم إلى القصر في الموعد الذي كان قد رسمه له. أدخلهم إليه قدر آخر قبل أن تصطادهم اللعنة فرداً فرداً. فإذا بكل منهم أسير المعادلة القاتلة...
عندما اختار غسان شربل حواراته مع الهراوي وبري والحريري وعون، كان يضع الرجال الأربعة أمام لعنة لم يخترها أيّ منهم، ولا تسبّب بها لنفسه. بل الأصح أنه ألفها وتعايش معها. اثنان منهما هما الهراوي وبري اكتفيا بمراعاة أصول قوانينها فتمكنا من النجاة، والاثنان الآخران الحريري وعون عصيا وحاولا أن يكونا أقوى منها فقتلت الأول ونفت الثاني.
هل تراه اتفاق الطائف صنع «لعنة القصر»؟. تبدو هذه الفرضية الرئيسية لغسان شربل، وهو يقول في المقدمة أيضاً إن الاتفاق غيّر مصائر الرجال الأربعة: أدخل الهراوي إلى القصر على أشلاء معوّض من أجل أن تحكم سوريا... وأخرج عون منه على بقايا انهيار المسيحيين المنقسم بعضهم على بعض، وقد خسروا حربهم الطويلة والمنهكة... وفتح لبري أبواب القصر على جثة انتخابات نيابية، كانت تريدها دمشق للإمساك بكل مفاصل الحياة السياسية اللبنانية... وأخرج الحريري من الحياة عندما بدأ للمرة الأولى يتحدّث عن اتفاق الطائف، الحقيقي.
كان الدخول إلى القصر رسالة اعتقد الرؤساء الأربعة أنها أعطت كلاًّ منهم دور المنقذ. فإذا بهم تحت وطأة لعنتها التي لم تكتفِ بحسب المؤلف بتغيير مصائرهم. بل غيّرت كذلك «تفسير الطائف ومصير الجمهورية ومصائر كثيرين».
وما صحّ قول غسان شربل في الهراوي إن «قدره كان أن يواجه أقوياء وأن يشارك أقوياء». تصحّ العبارة نفسها في الرؤساء الثلاثة الآخرين. لا القصر يحتمل بقاء الضعفاء فيه، ولا اللعنة تطارد أمثال هؤلاء. كان على الهراوي وبري والحريري وعون أن يتصرّفوا في الحكم أقوياء، وهم يواجهون في الداخل وعلى الأطراف وفي الخارج أقوياء، كي يبقوا داخل دائرة اللعبة والقدرات والسلطة والقوة والحياة، وكتابة أحداث التاريخ وحفظ دروسه. «لعنة القصر» يروي بألسنتهم ما كان يدور في تلك الدائرة.