حسين بن حمزة
عبر ترجمته قصائد مختارة من دواوين متفرقة لبابلو نيرودا، يعيد بول شاوول إلى التداول، فكرة الشعر المحمول على ظهر الأيديولوجيا. يستخدم الشاعر والناقد اللبناني تجربة نيرودا، كما استُقبلت عربياً على الأقل، كمثال صائب على شعر حقيقي أساءت إليه الأيديولوجيا بقدر ما خدمته أيضاً. لقد نال شاعر التشيلي شهرة واسعة في العالم العربي، بسبب يساريته وأفكاره التقدمية، وارتباط طموحاته الشعرية بصعود اليسار التشيلي الذي تمثّل في وصول الرئيس الليندي إلى سدة الرئاسة قبل أن يطيحه الديكتاتور بينوشيه بمساعدة الاستخبارات الأميركيّة.
في الحقبة التي كان اليسار فيها يتنفس من رئة الماركسية وحدها، كانت حركات التحرر في العالم تتواصل عبر الجمع بين الأدب والنضال الثوري/ السياسي. وكانت الواقعية الاشتراكية (ونسختها السوفياتية خصوصاً) أشبه بالسيف المُصلت على خيال الكتاب والشعراء، وكان الانتماء الفكري مسألة أساسية، إن لم يكن مقياساً، في الحكم على شعرية أي نص أدبي. وكان مجرد الاشتباه بإصغاء الشاعر إلى متطلبات جمالية وتقنيّة وأسلوبية يؤدي إلى وصمه بتهمة «الفن للفن». بالنسبة لنيرودا، كان واضحاً، حتى في تلك الحقبة، أنّ شعره لا يغرف من السياسة فقط. كما أنّ السياسة بمعناها المباشر، لم تكن مصدراً وحيداً لأفكاره. الترجمات الذي صدرت له في تلك الفترة تحتفظ له بصورة المناضل وصورة العاشق معاً. صحيح أنّ الاحتفاء بقصائد الحب التي كتبها كان تحت لافتة اليسار الواسعة، إلا أن ذلك كان يعطي القارئ خيارات متعددة لقراءته وتصنيفه. بهذا المعنى، كان وضع نيرودا أفضل من ناظم حكمت الذي كان الضلع الثاني في مثلث نيرودا ــــ حكمت ــــ لوركا. الثلاثة استقبلوا عربياً على أساس مواقفهم ضد الفاشية والرأسمالية وقمع الحريات. حكمت هو أكثر الثلاثة تعرضاً للغبن. الغنائية والمسرح أنقذا لوركا. القوة الابتكارية والخيال الخصب تكفّلا بنيرودا. أمّا ناظم حكمت، فلعله ينتظر من يقدمه بطريقة جديدة، أو يفاجئنا بشعر مختلف جرى دفنه وتجاهله باسم الأيديولوجيا. كتاب بول شاوول «بابلو نيرودا» (دار النهضة) يُبرز صورة نيرودا الشاعر، ويختار قصائد تُظهر شعريته التي لا تحتاج إلى شهادة حسن سلوك أيديولوجية. نقرأ فندرك أن هذا الشعر لم تتضاءل شعريته حتى بعد أفول النزعات الأيديولوجيّة والحزبية. يؤكد شاوول أنّ هذا الشعر «ما زال يحتفظ بقوته ونضارته بعد زوال مختلف الظروف التي أسهمت في تغذيته وشحنه». ويرى أن «الأحزاب اليسارية العربية أساءت إلى الرجل عندما قدّمته في صورته الطاغية كمناضل سياسي». كما يتناول علاقة نيرودا بالسريالية، والمناخات الغرائبية والغنائية والعاطفية في نصوصه. إضافة إلى إسهام التراث الغني والخصب لأميركا اللاتينية في نجاة نيرودا، وسواه من كتّابها وشعرائها، من أسر الأحادية الشعرية.