خليل صويلح
بمقاييس اليوم، يمكن إطلاق صفة الليبرالية على مجمل كتابات الرائد التنويري الحلبي فرنسيس أفندي فتح الله مراش (1836 ـــــ 1873). إذ إنّ صاحب «دليل الحرية الإنسانية» (1861) كان نموذجاً مبكراً وناضجاً للعقلانية والنهضوية العربية. ولعله هو من فتح الباب بعد ربع قرن لمواطنه عبد الرحمن الكواكبي كي يكتب «طبائع الاستبداد».
كشف مراش في مجمل مؤلفاته، البون الشاسع بين الظلم الذي ساد في الدولة العثمانية، والحرية السياسية التي كانت أوروبا تتمتع بها، خصوصاً بعد رحلته إلى باريس لدراسة الطب. يكشف كتابه «رحلة باريس» (1860) إعجابه بالمدنيّة الفرنسية، وتأثره الصريح بمبادئ الثورة الفرنسية، والعقد الاجتماعي لجان جاك روسو. كذلك يصف باريس بأنّها «سيدة المدن». لكنّ إعجابه بالمدنية الأوروبية بوصفها رمزاً للعقل، لم يمنعه من وصف الغرب بأنّه «فاتح جبّار ومتوحّش وقد تجلبب في جلباب المدينة».
صدور أعماله الكاملة ضمن منشورات «الهيئة العامة للكتاب» في دمشق، والتي جمعها وقدّم لها محمد جمال باروت، فرصة نادرة للاطلاع عن كثب على منجز هذا التنويري الحلبي الذي طالما تغنّى بمبادئ المحبة الإنسانية والعدالة وتثقيف العقل وتوطيد الحق والحرية.
ويشير جمال باروت إلى أنّ كتاب «غابة الحق» (1865) من أعظم كتب مراش على الإطلاق، «ولقد أتى من الناحية الأسلوبية في شكل يحاكي السردية الروائية، ولا ريب في أنها من الإرهاصات الأساسية في نشأة الرواية العربية، وتتضمن سمات الشمولية الفنية المنفتحة على عدة أنواع وأجناس أدبية متمازجة أو متراصفة». وإذا كان بعضهم يرى في «غابة الحق» باكورة الرواية العربية، فإنّ أهمية هذا النص تكمن في مقاربته الناضجة لامتصاص نظريتي «الحق الطبيعي» و«العقد الاجتماعي» في فكر عصر الأنوار الأوروبي. ويوضح باروت أن المراش امتص هاتين النظريتين وأعاد تأويلهما «بعقلٍ ليبرالي بازغ في زمن الرهان على مرحلة التنظيمات». كذلك فإنّ «غابة الحق» هي أول صياغة عربية للفكر التنويري الأوروبي، و«تتميز بعمق التمثّل ومحاولة إعادة الإنتاج» وهي كذلك أحد أبرز التمثلات الليبرالية التنويرية العربية الناضجة لعصر الأنوار والنزعة العقلانية العلمية للقرن التاسع عشر.
رغم عمره القصير وإصابته بالعمى أواخر أيامه، ترك المراش عدداً من الكتب المهمة مثل «المرآة الصفية في المبادئ الطبيعية» (1861)، و«خطبة في تعزية المكروب وراحة المتعوب» (1864)، و«مشهد الأحوال» (1870)، إضافة إلى ديوان شعري بعنوان «مرآة الحسناء».