بشير صفير
إنّها المراهقة الأبديّة صاحبة اللكنة الإنكليزيّةالمحبّبة، وحبيبة سيرج غينسبور الذي جعل منها مغنية وأغضب الفاتيكان. أيقونة السبعينيات الباريسية تقف غداً على خشبة الـ«ميوزيكهول». وتقدم فيلمها الأخير في بيروت


اختتمَ المركز الثقافي الفرنسي في بيروت أنشطته الموسيقيّة عام 2007 مع المغنّية الجزائرية الفرنسية بيونة، وها هو يفتتح السنة الجديدة غداً الأحد في «ميوزيكهول»، مع أشهر إنكليزيّة في فرنسا... المغنية المعروفة جاين بيركن. إنّها زيارة بيركن الثانية إلى بيروت بعد ثلاث سنوات من الحفلة التي قدّمتها في قاعة بيار أبو خاطر في الجامعة اليسوعية. وبغضّ النظر عن الفترة الزمنيّة التي تفصل المحطتين، لن يشبه لقاء غد المحطة الأولى بشيء، وليس بينهما سوى قاسم مشترك وحيد هو صوت بيركن... ولو أنّه (ربما) خسر من خصائصه مع تقدّم صاحبته في السن، هي التي باتت اليوم في الحادية والستين.
في عام 2004، حمل اللقاء مع بيركن بصمات أيقونة من أيقونات الأغنية الفرنسية، هو رفيق دربها السابق، ووالد ابنتها شارلوت، سيرج غينسبور (1928 ـــــ 1991)... وجاء يومذاك اللقاء مطعّماً بتلوينات شرقية. غنّت بيركن من ألبومها الأخير آنذاك «أرابسك» (2002) الذي استعادت فيه كلاسيكيّات من ريبرتوار غينسبور الضخم، وقد أعيد توزيعها بأسلوب شرقي بالاشتراك مع جمال بنيلاس. أجرى عازف الكمان والموسيقي الجزائري المذكور بعض التعديلات الموسيقية على الأغنيات فأعطاها صبغة شرقية... مضيفاً نوتات معيّنة إلى الجملة اللحنيّة الأصليّة كي تتبع مقامات شرقية مع الحفاظ على خطوطها الأساسيّة.
بيركن، أيقونة السبعينيات التي جاءت إلى باريس من بريطانيا، اشتهرت بمظهر «المراهقة الأبديّة»، مثّلت في السينما مع أنطونيوني وسواه، وتقاسمت الحياة مع الابن الرهيب للأغنية الفرنسية الراحل سيرج غينسبور بين 1968 و1980... وبقيت صورتها تقترن به إلى اليوم، إذ تلاحقها Je t’aime... moi non plus (أحبّك، بدوري لا!)، الأغنية الأسطوريّة التي أثارت فضيحة في زمنها وانصبّ عليها غضب الحبر الأعظم في الفاتيكان! هذه هي الفنانة التي تقف على خشبة «ميوزيكهول» غداً... فهل تلبي توقعات جمهورها هذه المرّة؟ التجربة السابقة مع Arabesque لم تكن موفّقة من بيركن، إذ أضاعت روح غينسبور ولم تبلغ الشرق! يمكن تأكيد هذا الكلام الآن بعدما استمعنا إلى ألبوميها اللاحقين Rendez-vous (2004) وFictions (2006). ومنهما ستغرف أغنيات حفلتها اللبنانيّة. بالتالي، يمكننا أن نتوقع حفلةً أكثر متعةً من ناحية الهوية الموسيقية الفرنكو ـــــ إنكليزية التي تتماشى مع شخصية بيركن... البعيدة كل البعد شكلاً ومضموناً عن الشرق! ولعلّ الأسطوانتين الأخيرتين اللتين تغنّي فيهما جاين بالفرنسية والإنكليزية. تمثّلان موسيقياً أهمّ محطاتها منذ انفصالها عن غينسبور أوائل الثمانينيات، علماً أن هذا التقويم ينطبق على Rendez-vous (موعد) أكثر منه على Fictions (خرافيّات).
في Rendez-vous، تعاونت بيركن مع أنجح الموسيقيين في مجال الأغنية الفرنسية والإنكليزية، فأتى عبارة عن ثنائيات كتبها وشاركها في أدائها رموز التجديد في هذا المجال أمثال 3d Mickey وبراين فيري وبيث غيبونز وميوسَك وفايست ومانو تشاو وبراين مولكو مغنّي فريق Placebo...
أمّا Fictions، فحوى أغنيات لفنّانين كبار، غنّتها بيركن بتوزيع جديد، ومعظمها باللغة الإنكليزية بخلاف العديد من ألبوماتها السابقة حيث اشتهرت بغنائها بلكنة إنكليزيّة واضحة. فهذه المغنّية الإنكليزية الأصل لم تتواجه جدياً مع الفرنسية قبل أواخر الستينيات إثر علاقتها الغرامية بغينسبور. تضمن هذا الألبوم أغنيات لفنّانين مخضرمين أمثال توم وايتس ونيل يونغ وكايت بوش، إضافة الى روّاد الأغنية الفرنسية الحديثة مثل أرتور اش. ودومينيك أ. وكالي، وأيضاً روّاد الأغنية الإنكليزية الحديثة مثل بيث غيبونز وروفوس واينرايت. كذلك حمل Rendez-vous وFictions بصمات إحدى المواهب الكبيرة في عالم الموسيقى لناحية التوزيع، هو الفنان الفرنسي، من أصل كندي، غونزاليس.
لكن في كلّ الأحوال، لا ينبغي أن ننسى أن جاين بيركن ظاهرة، وحالة فنية، أكثر منها مغنية بالمعنى الطربي! فهي لا تتمتّع بصوت خارق، قوي أو متمكّن ومهذّب تستطيع بفضله التلاعب في اللحن وإمتاع آذان المستمعين. ولعلّها لم تكن لتخوض معترك الغناء من أساسها لولا لقاؤها بالموسيقي الكبير سيرج غينسبور الذي أدخلها تدريجاً الى هذا العالم، وتمكّن من التقاط خصائص صوتها لتوظيفها وإخفاء نقاط الضعف فيه. لقد عوّل غينسبور، بالدرجة الاولى، على الأنوثة والدفء في صوت تلك الممثلة الإنكليزية التي التقاها خلال تصوير فيلم Slogan، بعيد انفصاله عن بريجيت باردو. أما بدايات «الممثّلة» جاين بيركن في مجال الغناء، فكانت مع الأغنية المثيرة للجدل Je t’aime, moi non plus. تلك الأغنية كتبها غينسبور، ثم سجّلها في غناء ثنائي مع باردو عام 1967، لكن BB منعته من نشر التسجيل حينذاك (صدر بعد نحو عشرين عاماً)... هكذا عاد وسجّلها من صديقته الجديدة جاين... وشاءت سخرية القدر أن تكون النسخة الأنجح والأشهر من الأغنية حتى اليوم، بعد نشرها في ألبوم بيركن الأول (1969) الذي حمل اسم الحبيين وحوى مجموعة من إبداعات غينسبور. وبعد ذلك، تبقى المحطّة الفنّية الأهم في تاريخ بيركن ـــــ حسب إجماع النقاد ـــــ أسطوانة Histoire De Melody Nelson (1971)، حكاية ميلودي نيلسون التي يؤديها الثنائي ببراعة فريدة.
إلا أنّ الفنّ السابع احتلّ الحيّز الأوسع في حياة بيركن التي أدّت أدواراً كثيرة في أعمال حملت توقيع كبار المخرجين مثل أنطونيوني وغودار ورينيه وتافرنييه. كذلك شاركت في تجارب مسرحية ومسلسلات تلفزيونية.
لكن تجربتها الإخراجية الجدية الأولى في عالم السينما، تعود الى السنة الفائتة مع الفيلم الطويل التي كتبت قصته أيضاً، Les Boîtes (العلب) وسيعرض مساء اليوم في «صوفيل» (الأشرفية) في مناسبة زيارتها إلى بيروت. هكذا، سيتاح للجمهور اللبناني اليوم اكتشاف بيركن المخرجة والممثّلة في «العلب»، قبل أن يلتقيها غداً في أغنيات يعرفها، إما بصوت بيركن، أو بصوت فنانين آخرين في تسجيل استوديو. ويرافق الفنانة في حفلتها البيروتية اليتيمة، كريستوف كرافيرو (فيولون وبيانو)، وفريديريك جاكمان (ايقاعات)، وتوما كوريو (غيتار).

فيلم Les Boîtes: الثامنة من مساء اليوم ـــــ صوفيل: 01،420232
الأمسية الغنائيّة: التاسعة من مساءً غد الأحد ـــــ ميوزيكهول: 01،361236




من آنا باخ إلى جاين غينسبور!

كثيرون من كبار الموسيقيين كان لشريكتهم دور بارز في حياتهم الفنية. في هذا السياق، نعود إلى باخ الذي كانت زوجته الثانية آنا ماغدلينا تساعده في تدوين أعماله، بعدما فقد بصره بشكل شبه كلي في السنتين الأخيرتين من حياته. وتولّت كونستانزه موزار أداء بعض الأدوار الغنائية في مؤلفات زوجها، كما اهتمت بترتيب أوراقه الموسيقية الكثيرة بعد رحيله المبكر، وسعت إلى أرشفتها ونشرها. ونجد أمثالاً كثيرة على مرّ السنين منذ باخ، في كل الفترات والمجتمعات والأنماط الفرنسية. في الأغنية الفرنسية، تمثّل فرانس غال زوجة الفنّان ميشال بيرجيه، وجاين بيركن شريكة غينسبور لسنوات، نموذجين لهذا الموضوع. فرانس غال التي غنّت لزوجها قبل وفاته، عادت وغنّت من أغنياته بعد رحيله عام 1992. وتُعد حفلة الأولمبيا عام 1996 من أصدق التحيّات الموسيقيّة لزوجها، حيث أوكلت مهمة مرافقتها إلى كبار الموسيقيين (وخصوصاً من الجاز).
أمّا بيركن، إضافة إلى أداء الكثير من الأغنيات التي كتبها غينسبور، فقد أصدرت عام 1996 ألبوماً بعنوان Versions Jane بعد خمس سنوات على رحيل حبيبها الذي كانت قد انفصلت عنه قبل أكثر من عقد. وقد حوى أغنيات كتَبها غينسبور لمغنيّات فرنسيّات (كاترين دونوف، فرانسواز هاردي...) وأخرى كُتبت لها، أوكلت جاين إعدادها إلى مجموعة فنانين من فرنسا وخارجها. ثم عادت عام 2002 لتحيّي سيرج بألبوم «أرابسك»، ضم توزيعاً شرقياً لأجمل أغنياته التي خسرت الكثير من جوهرها في قالبها الجديد، ولم تقدّم جديداً، بل تعرّضت للتشويه برأي كثيرين.