لا نبالغ إذا حسبنا الموسيقي دانيال بارنبويم من أشهر الأسماء في العالم، ومن أبرز الرموز الفنيّة وأكثرها نشاطاً وغزارةً في الإنتاج، في عالم الموسيقى الكلاسيكية الغربية. شهرته الواسعة هذه لا يكتسبها بالضرورة في أوساط العاملين في حقل الموسيقى والمهتمين بتسجيلاته فحسب، بل إنّ اسمه ينتشر في أوساط كثيرين ممن لا علاقة لهم بالفنون وبالموسيقى تحديداً. ذاع صيت بارنبويم في عالم الموسيقى دون سواه حتّى أواخر تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأ يوظّف ما اكتسبه في هذا المجال لتقريب وجهات النظر بين الإسرائيليين والعرب، وتحديداً الفلسطينيين. وقد تجسّدت هذه الفكرة من خلال مشروع تأسيس أوركسترا تضمّ موسيقيين من الطرفين عمل عليه مع صديقه، المفكّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد. هكذا، ولدت «أوركسترا الديوان الشرقي الغربي» التي جمعت موسيقيين إسرائيليين وفلسطينيين وآخرين من الدول العربية المجاورة أي سوريا، الأردن، لبنان ومصر.
ولد دانيال بارنبويم في الأرجنتين عام 1942 في كنف عائلة يهودية مهاجرة من أوروبا الشرقية. هناك، درس العزف على البيانو قبل أن ينتقل مع أهله إلى إسرائيل عام 1951. موهبته الموسيقية الاستثنائية أتاحت له تقديم حفلات عزف منفرد في أوروبا، وهو لم يتجاوز سنواته العشر. بدأ تعلّم قيادة الأوركسترا، ومارس أوّل نشاطاته في هذا المجال أوائل الستينيات في إسرائيل، في وقت كان تمكّنه فيه من آلة البيانو قد بلغ أعلى مستوياته. هكذا نفّذ تسجيلات كثيرة لأعمال كتبها عظماء هذه الآلة، طاولت بيتهوفن وموزار على وجه الخصوص، بينها أعمال للبيانو المنفرد (سوناتات) وأخرى بمرافقة الأوركسترا (كونشرتوهات).
أولى بارنبويم، بوصفه قائد أوركسترا، اهتماماً بالأعمال الأوبرالية، وتحوّل أيضاً هذه المرة إلى موزار. أما شهرته الأوسع في هذه الفئة، فحقّقها عبر تسجيلات مرجعيّة لأعمال ريتشارد فاغنر (1813 ـــــ 1883). المحطة الأبرز في حياته على المستويين الفنّي والشخصي، تمثّلت في زواجه من عازفة التشيلو التاريخية، الإنكليزية جاكلين دو بريه عام 1967 التي توفّيت عام 1987 وهي في قمّة عطائها، عن 42 عاماً، بعد إصابتها بتصلّب الشرايين الذي أبعدها عن العزف منذ 1972. أحدث رحيل دو بريه فراغاً في حياة بارنبويم، ملأه بنشاط موسيقي منقطع النظير، إذ يُعدّ اليوم من الموسيقيين الأكثر تسجيلاً في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية.
بعد سنوات على صداقة وطيدة مع إدوارد سعيد خلال التسعينيات، نتج منها تنظيمهما ورشَ عمل ضمّت موسيقيين إسرائيليين وعرباً في ألمانيا أواخر التسعينيات وولادة «أوركسترا الديوان الشرقي الغربي» التي ما زال يشرف عليها بارنبويم ويقودها في حفلات حول العالم.
بدأت علاقته تسوء بالدولة العبريّة عندما قدَّم في اسرائيل عام 2001 أحد أعمال فاغنر، المعروف بعدائه للسامية، فأصبح بارنبويم رسمياً غير مرغوب فيه في الدولة التي يحمل جنسيتها. واحتدمت المواجهة بين الطرفين عندما امتنع بارنبويم عن إعطاء مقابلة لصحافية إسرائيليّة لأنّها كانت ترتدي الزيّ العسكري. لكنّ الحكومة الإسرائيلية لم تكن تتوقّع ما حدث منذ شهر ونصف تقريباً، إذ فوجئ الرأي العام بخبر منح حكومة «حماس» جوازاً فلسطينياً لبارنبويم، ليكون أوّل مواطن يحوز الجنسية الفلسطينية بعد الاسرائيلية! وهو ما دفع حزب شاس إلى المطالبة بسحب جنسيته الاسرائيلية.
وكان بارنبويم وسعيد قد أصدرا كتاباً مشتركاً بعنوان «نظائر ومفارقات» (صدرت طبعته العربية عن «دار الآداب») هو عبارة عن حوارات موسيقية واجتماعيّة بين الموسيقي والمفكّر. ويُذكر أنّ الأمن اللبناني منعَ تسجيلات بارنبويم من دخول لبنان منذ ثلاثة أعوام، ثم تراجع عن قراره بعدما علت الأصوات في الصحافة اللبنانية شارحةً موقف هذا الموسيقي من دولة إسرائيل والقضية الفلسطينية.