strong> عثمان تزغارت
• Saw IV: حين ينقلب الرعب على هوليوود

سياسة بوش الخارجيّة باتت من مصادر إلهام «القاتل عاشق الـPuzzle». بطل دارين لين بوسمان، في الجزء الرابع من Saw، يستعير فلسفته من النزيل الحالي للبيت الأبيض. النتيجة؟ تجربة تكرّس القطيعة مع الخطاب الأخلاقوي الذي سيطر طويلاً على أفلام الرعب الأميركيّة

في غرفة شبه مظلمة في فندق قذر، يبدأ الجزء الرابع من سلسلة أفلام الرعب Saw، بمشهد في غاية القسوة. إذ يقوم بطل Saw، المعروف بلقب «القاتل عاشق الـPuzzle» (لعبة تجميع الأجزاء) بتقييد رجل بريء للوهلة الأولى وتعنيفه. يُخضع الجلاد ضحيّته لأبشع أنواع التعذيب، غير آبه بشكواه وآلامه وتأوّهاته. وهو ما يشكّل صدمةً قاسيةً للمشاهد الذي لا يفهم لماذا يتحامل «عاشق الـ Puzzle» منذ المشهد الأول على شخص أعزل وبريء، متلذّذاً بتعذيبه بساديّة ودمويّة.
إلا أنّ الكاميرا لن تلبث أن تشرع في حركة تراجعية، ليتّسع المشهد تدريجاً. وإذا بالمشاهد يكتشف على جدران الغرفة مجموعةً من الصور البشعة لمشاهد تعذيب واغتصاب وقتل... وسرعان ما يفهم أن هذه البشاعات ليس إلا الضحية المقيّدة إلى الكرسي قبالة «عاشق الـ Puzzle»!
هكذا يقلب دارين لين بوسمان، مخرج Saw IV جدلية الجلّاد والضحية، ليستدرج المشاهد ـــــ من حيث لا يدري ـــــ من موقع التعاطف مع الضحيّة الأعزل إلى موقع التشفّي منه. على اعتبار أنّ التعذيب الذي يتعرض له على يد «عاشق الـ Puzzle» ليس سوى قصاص عادل، مقابل ما اقترفه من جرائم بشعة. وهو ما يسمح لـ«القاتل عاشق الـPuzzle» بتبرير عنفه السّادي وجرائمه، بوصفها أفعالاً شرعية تندرج ضمن القصاص العادل أو الحق في «ممارسة الشر دفاعاً عن الخير»... حتى يكاد يخيّل للمشاهد أنّه يستمع إلى خطاب للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش!
تزداد المقارنة وضوحاً بين «القاتل عاشق الـ Puzzle» ونزيل البيت الأبيض، مع توالي مشاهد التعذيب وممارسة الشر دفاعاً عن الخير. بطل هذا الجزء الرابع من Saw، بخلاف شخصيّة هنيبعل ليستر في «صمت الحملان»، وفريدي الرهيب في «مخالب الليل» A Nightmare On Elm Street، وغيرها من نماذج الشخصيات المحورية المعتادة في أفلام الرعب الأميركية، لا يجد متعته في ممارسة العنف والتعذيب، بقدر ما يستمتع بتصوير جرائمه و«إخراجها» بطريقة تحيل ـــــ من دون مواربة ـــــ إلى... صور سجن أبو غريب! حتى إن تعابير وجه «القاتل عاشق الـPuzzle»، وعلامات السعادة والتلذّذ التي تعلو محيّاه في الصور التي يعرّي فيها ضحاياه، ويربطهم بقلائد، أو يعبث بأعضائهم الحميمة، ليست غريبة على المشاهد، لأنها تذكّر بالجندية ليندي إنغلند أشهر الجنود الأميركيين المتورطين في فضائح التعذيب في أبو غريب.
بتصدّيه لفضح المطبّات القانونية والأخلاقية التي تنطوي عليها أطروحات «ممارسة العنف من أجل الخير» التي تقوم عليها السياسة الخارجيّة للرئيس بوش، حقّق Saw IV قطيعةً جذريةً مع المرجعيات الأخلاقية النمطية التي تطبع عادةً أفلام الرعب الهوليوودية. لكنّ الناقد السينمائي الفرنسي، إيريك دوفور، مؤلف كتاب «سينما الرعب ورمزياتها» (راجع البرواز) يرى أنّ هذا المنعطف لم يأت من فراغ، بل يشكّل امتداداً لموجة مغايرة من أفلام الرعب، ظهرت بوادرها الأولى مع مطلع الألفية الجديدة.
في العادة، كانت سينما الرعب الأميركيّة، في معظمها، تقوم على الخطاب النمطي ذاته الذي يتمثّل في الترويج للقيم الاجتماعية المحافظة، ويحرص دوماً على انتصار الخير على الشرّ في النهاية. هكذا نجد أنّ الجندي الهارب من الخدمة العسكرية، يتعرّض لميتة بشعة في «مجزرة بالمنشار الكهربائي». بينما تتعرض الفتاة غير العفيفة في «مخالب الليل» لعقاب رمزي مرعب: تستعد لموعد حميم مع صديقها، فتظنه وصل حين تلامسها أنامل مجهولة من الخلف، قبل أن تكتشف أنَّ من يداعب أماكن حميمة من جسدها ليس سوى فريدي الرهيب، صاحب «أنياب الليل» البشعة. وهنالك نماذج مماثلة لا حصر لها، لعلّ أشهرها فيلما Halloween وHostel حيث لا ينجو أحدٌ من القتل سوى التلميذة النجيبة في الدراسة، والتي حافظت على عفّتها...
لكنّ جيلاً جديداً من السينمائيين برز خلال السنوات العشر الأخيرة، وشرع في خلخلة هذه القواعد الجامدة، وما تنطوي عليه من قيم أخلاقيّة. ومن أبرز رموز هذا الجيل ويس كرافن، مخرج سلسلة أفلام الرعب الشهيرة Scream الذي سخر في الجزء الأخير من هذه السلسلة من التوجّه «الأخلاقوي» الذي يغلب على سينما الرعب الهوليوودية. هكذا، تعمّد أن تكون الفتاة العذراء العفيفة هي الناجية الوحيدة في نهاية شريطه، ثم جعلها تقول ساخرة: «لم أكن أتصوّر أنني سأكون يوماً ما سعيدة إلى هذا الحدّ بكوني عذراء»!
ويأتي دارين لين بوسمان في الجزء الرابع من Saw، ليحرز شوطاً إضافيّاً في القطيعة مع الخطاب الأخلاقي السائد في سينما الرعب الأميركية، فهو هنا لا يخلّ فقط بقاعدة مكافأة العفّة وتثمين الخير، بل يقلب الأطر الرمزية لأفلام الرعب رأساً على عقب. إذ إنّ البطل الشرير عنده لم يعد يخاطب الجمهور بقوله: إنّني الشر، فخافوني، بل صار يدّعي لنفسه دوراً إصلاحياً، ومهمة مقدّسة، يخوّلانه ممارسة الشرّ دفاعاً عن الخير.




strong>كلّما اتسع الخوف...

ليس مستغرباً أن يتصدّى فيلم مصنّف ضمن فئة أفلام الرعب الشعبية الموجهة إلى الجمهور العريض، لتيمة فكرية وسياسية مثل فضح سياسات الإدارة الأميركية الحالية، وكشف المطبات والمخاطر التي يمكن أن تفضي إليها الأطروحات الداعية إلى «ممارسة الشر دفاعاً عن الخير». وهي تيمات إشكالية لا يجرؤ عادةً على تناولها سوى أفلام السينما السياسية «المثقّفة».
يقول الناقد السينمائي الفرنسي إيريك دوفور، مؤلف كتاب «سينما الرعب ورمزياتها»: «لا يشكل الجزء الرابع من Saw حالةً استثنائيةً في تاريخ سينما الرعب، وليس غريباً أن يحمل فيلم من هذا الصنف خطاباً فكرياً أو سياسيّاً. فأول فيلم أميركي قدّم رؤية نقدية للسياسات الأميركية في حرب فيتنام، كان فيلم رعب بعنوان «الميت ــــــ الحي»، أخرجه بوب كلارك، عام 1972، وكان يروي قصة جندي أميـركي مفقود في فيتنام، يُعتقد بأنّه قُتل خلال الحرب. لكنه لا يلبـــــث أن يعود في هيئة شبح ينتقم من معارفه وسكان مدينته لأنّهم تخلوا عن واجبهم الأخلاقي في البحث عن جثته وإعادة رفاته إلى أرض الوطن...».
ويعزو دوفور هذه الظاهرة إلى كون سينما الرعب تمثّل دوماً تنفيساً عن مكبوتات الحياة، الفردية منها أو الاجتماعية. فكلما زادت مخاوف الناس حيال تفشّي العنف وانعدام الأمن، واحتدّ قلقهم الوجودي، وبالتالي خوفهم من رمزية الموت.. تشهد أفلام الرعب مزيداً من الانتعاش. ولا شك في أنّ الطريقة التي تعاملت بها إدارة بوش حيال تحدّيات عالم ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، عمّقت مخاوف الأميركيين وضاعفت من قلقهم حيال انتشار العنف والتطرف وانعدام الأمن. وهذا ما يفسّر لماذا حقّق فيلم Saw IV نجاحاً جماهيرياً فاق كل الأفلام السياسية التي أُنتجت خلال العامين الماضيين، والتي تنتقد السياسات الأميركية، وخصوصاً ما يتعلّق بحرب العراق.