بيار أبي صعب
قليل الظهور، حين يملأ زملاؤه الدنيا بضجيجهم. منزوٍ كما الشعراء، هو الذي لم يبرح دائرة الضوء في حياة مضت، أشبه بالزمن السعيد. كان محمد العبد الله نجم «كليّة التربية»، صوت جيله الذي لصقت به ــــ اختزالاً ــــ تسمية «شعراء الجنوب». ثم تتالت الإخفاقات، سياسية وعاطفيّة ووجوديّة، انهارت الأوهام والمشاريع الكبرى. انهارت المرحلة التي اعتبر يوماً في مقدمة مجموعته الأولى «رسائل الوحشة» (1978) أنها «الأصعب»، وانفرط عقد الجيل الذي كتب أيضاً أنّه كان «الأصعب». المدينة التي أمّها ذات يوم آتياً من بلدة الخيام لبلوغ المجد، لم تعد تماماً كما هي، ولم تعد تتسع لأي مجد. «بيروت» التي غنّاها في قصيدة شهيرة من أيام الجامعة، ابتلعها الزلزال. كل شيء تبدّل هنا، وبقي الشاعر.
محمد العبد الله كما تعرفه. لم يتغيّر قيد أنملة في مجموعته الجديدة «زهرة الصبّار» (الفارابي). زادت الندوب والخيبات ربّما. تضاعف التعب وتفشّت المرارة على الأرجح. دولسينييا (أو «مريم»)، أطالت الغياب حتماً. أما في ما عدا ذلك، فكلّ شيء على ما يرام! يكفي أن تقرأ هذه القصائد اليومية، المبثوثة كالقرقعة على هامش الواقع. محمد العبد الله نفسه، كما غافلَنا مرّة «بعد ظهر نبيذ أحمر، بعد ظهر خطأ كبير» (1981). مهرّج حزين يقلّد ــــ «كيفما اتفق» ــــ غوريلا تتهادى على خيط حريريّ رفيع، ممدود فوق الثقب الأسود للكون. «كحمار يحمل أسفاره/ أحمل أحزاني، عينيكِ/ وكتاب الآهاتْ/ ضيّعت الدربَ/ ولكنّني صادقُ جميع الطرقاتْ/ لا مجدَ لديَّ لأهديكِ/ أهديتُكِ مجدَ الكلماتْ».
ما سبق ليس سوى «إهداء» المجموعة الجديدة. تقتفي أثره عبر قصائدها السريعة، وتتذكّر (أو تنتبه) أن صاحب «وقت لزينتها» (1989) و«بعد قليل من الحبّ» (1994) هو في النهاية رومانسي بامتياز. لعلّ مجنون «مريم»، إذ يستحضر الحبيبة المشتهاة أو الوقت الهارب أو الانتظار أو البكاء، لم يقلع يوماً عن تلك العادة الباطلة التي تنصّل منها الشعراء من زمن بعيد. لكنّه يلجأ ـــ بفعل الحياء؟ ــــ إلى الفجاجة لتمويه غنائيّته أو تخريبها. يتحصّن بالمفردات التي لا نتصوّر أنّها يمكن أن تدخل قصيدة (من الطنجرة إلى الترّاس، مروراً بمعالي الوزير)... يأخذ فجأة تلك النبرة المباشرة ليحكي بلغة الحياة العادية، تفاصيل اعتراضيّة ونكاتاً وكلاماً «بايخاً». وإذا بهذه الانحرافات تضيف إلى رومانسيّته، تصبح اللحظة الأقوى في القصيدة. المهرّج الحزين حين يرثي العالم... يضحك على نفسه.