strong> بثينة رشيد
«القدس ذكريات الأجيال» هو عنوان الشريط الذي عُرض أخيراً على «العربية» في برنامج «مشاهد وآراء» مع ميسون عزام (راجع المقال في مكان آخر من الصفحة). رصد الفيلم حياة المصوّر الأرمني المقدسي إيليا قهوجيان، من خلال صور التقطَها للقدس العتيقة قبل احتلالها. فيلمٌ امتزج فيه الماضي والحاضر من خلال صور التقطها أيضاً الابن جورج والحفيد روبين، فهذه العائلة امتهنت التصوير منذ القدم... بالتالي، كان على الكاميرا أن توثّق لكل جيل بالطريقة المناسبة: الجدّ إيليا هو الشخصيّة الأساسيّة والخلفيّة التي لا يمكن الاستغناء عنها أثناء الحديث عن القدس. ظهرت صورة معلّقة على الجدران وذكرى متحرّكة عبر شريط سينمائي تعرضه العائلة كلّما حنّت إلى الماضي. هذا الجد ترك لنا 1200 صورة بالأبيض والأسود للقدس. أما الشخصية الثانية، فهي الابن جورج، الوارث للمهنة والمحل، شخصية حيّة لكنها شبه سكونية، فهي إما واقفة أو جالسة. كأنّها تمثّل حالة الحاضر ـــــ الصدمة، وتبدو سلبيّةً تعتصم بالصمت عندما تجد نفسها محاصرة. يمكن ملاحظة ذلك عبر مشهد يُظهر جورج وهو يتحدّث مع طالبة فرنسية متضامنة مع القضيّة العربية. كان واضحاً ابتسام جورج وتفاعله مع وجهة نظر الطالبة، لكن في المشهد ذاته يختار الصمت والابتسامة ذاتها لدى دخول مرشد سياحي إسرائيلي مع مجموعة سيّاح أجانب. بينما يصدر جورج حكمه القاطع على الفلسطينيين وهم يخضعون للتفتيش من جنود إنكليز في صورة تعود إلى زمن الاحتلال البريطاني، معلقاً بأنّهم إرهابيون «هكذا كانوا وهكذا هم الآن».
أمّا الشخصية الثالثة، فهي الحفيد روبين المليء بالحياة الذي جال القدس سيراً على الأقدام، حاملاً الكاميرا ليصوّر الأماكن نفسها التي صوّرها جده، ومن الزاوية نفسها لكن بألوان قوس قزح. يقول روبين في أحد المشاهد: «أُحب هذه المدينة ولي أصدقاء من الإسرائيليين ومن الفلسطينين، فأنا حيادي. لكن إن سألتني من أنا، فستتملّكني الحيرة. جدي أرمنيّ لكنّي أحمل بطاقةً إسرائيلية وجواز سفر أردنياً. وأنا فلسطيني... بصراحة لا أعرف ما هي هويتي؟!» سؤاله هذا يتضمّن احتجاجاً على وضع غير سليم، على رغم أنّ جملته ما قبل الأخيرة «أنا فلسطيني»، حسمت الأمر لمصلحة عروبة المدينة كهويّة تمنح التسامح لكل مَن يسكن أرجاءها...
لكن هل أراد الفيلم أن نصل إلى مثل هذا الرأي؟ بالطبع لا، فالشريط حاول بخبث بالغ أن يُظهر المسيحيين كأنّهم وافدون إلى فلسطين وليسوا أهلها. وبالتالي هم يعيشون إشكاليّةً في تحديد هويتهم، ويعانون التضييق... لكن حكماً ليس من إسرائيل! وهذا التضييق يدفعهم إلى السفر أو المطالبة بتدويل القدس. وهذه هي الفكرة والهدف الأساسي من الشريط. كأنّه يريد أن يقول إنّ أشد ما تعانيه المدينة هو ذلك السعي غير اللطيف إلى احتكار الطرف العربي لها، فيما الحل يكون بالتدويل لإخراجها من السيادة العربية. لذا كان مفهوماً هذا التركيز على هويتها العالمية، لنُحال على التباس يضع العروبة والعالمية، كأنّهما في تضادّ، فيما أثبتت التجربة أنّه وهمي ومفتعل. فأن تكون القدس مدينة عربية لا يتعارض مع قناعة العرب برمزيتها السماوية والعالمية. هذه الرمزية التي ما كان لها أن تعيش وتحيا، لولا تاريخها القائم على التسامح والقبول بالآخر المسالم السائح لا المعتدي الظالم. وشخصية إيليا الذي اختار فلسطين وطناً والقدس مدينة يخصّها بصوره ما هي إلّا دليل على الحب والرضى الذي كانت تعيشه هذه البلاد، قبل مجيء مَن شوّه معالمها... هذا الإلحاح المقصود في تحييد المسيحيين عن الصراع، أصبح حثيثاً تحضّه إرادة قوية لإلغاء ذاكرة ليست بعيدة، تثبت أنّ المسيحيين هم دعاة القومية العربية وهم أصحاب الفكر الحرّ الذي عارض إقامة دولة عنصرية على الأرض العربية. تلك الدولة التي كانت المسؤولة الوحيدة عن تناقص عددهم في القدس من 45 ألف في الأربعينيات إلى خمسة آلاف في 2000.
على أي حال، على رغم محاولات الفيلم لإظهار أنّ جمال القدس يكمن في أماكنها المقدسة فقط وفي اعتبارها مدينةً دينيةً عالميةً والابتعاد المقصود عن تصوير الجدار العازل الذي شوّه معالمها وتاريخها وجمالها، لم يستطع إلا أن يحكي حقيقة أنّ هذه المدينة كانت جميلة وتحاول أن تبقى كذلك ولو بصور اختارت الصمت وسيلةً يتيمةً تتحدث فيه مدينة السلام عن أنينها الذي لم يعد يكفي لإعادة ارتباطها الأبدي بالعروبة وبالسماء.