strong>رنا حايك
دخلَت قاعة الاستقبال في «دار المدى للثقافة والفنون» بخفر من يشتاق إلى الأضواء ويهابها بعد طول انقطاع عنها. هل من يذكر المطربة اللبنانية وداد التي صنّفت ظلماً مطربة الأغنية الواحدة بعد أن خلّد المستمعون أغنيتها «بتندم»، بينما أثرت المكتبة الموسيقية العربية بعشرات الأغاني؟
كانت وداد بين المحتفين بها... لكنها لم تكن معهم أول من أمس. جلست على الكنبة قبالتهم، شاخصة إلى الشاشة الكبيرة التي تعرض مقتطفات من برامج تلفزيونية قديمة كانت قد استضافتها، ولحظات تألّق فيها صوتها الشجيّ، بينما لم تفارقها ابتسامة دافئة وبعض دموع الحنين.
لم تكن مع الحاضرين في تلك القاعة. ربما كانت هناك، في تلك العوامة على النيل حيث تناولت الغداء هي ووالدتها المطربة المصرية صالحة السكندرانية ووالدها الحلبي، عازف العود في فرقة منيرة المهدية، فرج عودة، بناءً على دعوة من مطربة الفرقة وزوجها. أو ربما كانت في الإذاعة اللبنانية، حين غنّت لأول مرة وهي في التاسعة طقطوقة محمد عبد الوهاب «إنت وعزولي وزماني». حينها كان الميكروفون أطول من قامتها الطفولية، فأوقفوها على كرسي لتوصل صوتها إلى ملايين المستمعين.
قضت طفولتها في أروقة الإذاعة تغني السنباطي وليلى مراد وفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ. وفي صباها، منحتها ورقة سحبتها بالقرعة الفنانة فيروز اسمها الفني «وداد» رداً لدين قديم.
فقد سبق أن سئلت وداد، بعد عودتها من مصر للاستقرار في لبنان، عن رأيها ببعض الألقاب الفنية التي قد تناسب الفنانة اللبنانية نهاد حداد. يومها سُئلت عن ألقاب مثل جواهر أو برلنتي، لكنها لم تنصح باعتمادها، إذ وجدتها مبتذلة. «أسامي رقّاصات». بعدها بسنوات، كانت بهية قد تطلّقت من زوجها الشاعر عبد الجليل وهبي وتزوجت من الملحن توفيق الباشا، بينما بقي اسمها بهية وهبي. تخبر وداد الحاضرين بأن توفيق «أخد على خاطره»، فاجتمعت «بوطة» إذاعة الشرق الأدنى لاختيار اسم فنّي لها. وهنا، دعا مدير الإذاعة صبري الشريف الفنانة فيروز لسحب القرعة، ومن حينها، أصبح اسم بهية وداد. يسألها الروائي حسن داوود مناكفاً، بعد انتهائها من رواية القصة: «هل أحببت الاسم؟» فتجيبه بتلقائية وأريحية تميّزانها: «لو كنت محلّي شو كنت عملت؟ ما كان فيي أعمل شي».
تنهال أسئلة الحاضرين على وداد، بينهم من يبحث عن سحر «الزمن الجميل» في ذاكرة أحد الشاهدين عليه، فترد بحب جارف واقتضاب من تصالح تماماً مع فكرة انقضاء الماضي ويتجنّب الانجراف في رومانسية المجد الضائع أو استغلاله بغرض التسويق لصناعة مجد مستمر.
تذكر لقاءاتها مع أم كلثوم «الذكية المحترمة صاحبة الدم الخفيف»، وصداقتها الوثيقة بمطربات جيلها زكية حمدان ولور دكاش والملحنين الذين تعاملت معهم، أمثال فيلمون وهبي وزكي ناصيف ومحمود الشريف وحسن غندور وعفيف رضوان وسامي صيداوي وتوفيق الباشا...
وحين خفت الحديث وارتفع صوت لحن عذب، قطّبت حاجبيها وقالت: «شو هاي؟»، فسارع الحضور إلى تذكيرها بإحدى أشهر أغنياتها «ألف وردة»، فأردفت: «عم قول وين سامعتها»، واستغرقت معهم في ضحكة طويلة.
انتماء وداد إلى أسرة فنية فرض عليها منذ الطفولة كثرة الترحال، فتنقّلت بين مدن كثيرة، منها بغداد ومراكش وباريس والقاهرة. وفي القاهرة، كادت أن تعمل في السينما حين دعاها المخرج نيازي مصطفى للاشتراك في تسعة أفلام دفعة واحدة، لولا ممانعة والدها الذي اقتحم استديو التصوير و«سحبها من شعرها»، كما تقول، لأن المشاهد التي كانت على وشك تأديتها لم تعجبه. تفرّغت وداد بعدها للغناء، نغمات تطايرت على موجات الراديو، وحفظت في أدراج الإذاعة اللبنانية التي تبحث وداد معها اليوم مشروع إصدارها في أسطوانة، ولم يطرح في السوق منها سوى القليل مما أدرج في التسجيلات التي صدرت لزوجها الملحّن والموسيقي توفيق الباشا.
«ليش وقّفت غنا؟» يسألها أحد الحاضرين. تجيبه: «ومين قال إني وقّفت؟». تتناول الميكرفون بعد طول تردد تحت ضغط طلب خمسين شخصاً من مريديها، وتغني جملة ثم اثنتين ثم تحكم قبضتها أكثر فأكثر عليه بعشق المشتاق، وترتجل على «الأوف»، فتدير رؤوس الحاضرين، وتشيع جوّاً من السحر والنوستالجيا يبحرون فيه جميعاً، ويتفاعلون فيشاركونها الغناء بتزامن إيقاعي مدهش في تلقائيته. تثني على صوت ريما خشيش وهي تستعيد إحدى أغانيها بحضورها: «في وردة بين الوردات سألتنا عنك، مفتونة بهاك النغمات اللي سمعتها منّك».
ليش وقّفتِ غنا؟
تستكمل: «لأن الناس ما بقى يحبّوا الطّرب، صاروا يحبوا الضّرب».