جورج موسى
ما إن تسلّل الخبر العاجل إلى أسفل الشاشات الصغيرة، حتى استعدنا المأساة المتكررة نفسها، كما شاهدها مئات الآلاف بل الملايين من قبل... صور دمار، حفرة عميقة، سيارات متكلّسة، وتدافعٌ في مكان الانفجار. هذه المرّة ضحيّة العنف الأعمى هي النقيب في قوى الأمن الداخلي وسام عيد، واثنان من مرافقيه وعشرات المواطنين وعابري السبيل الذين لم يخطر في بال أحدهم أن دوره قد أتى، في جمهورية الفوضى والفراغ والموت الاعتباطي...
صوت صراخ وصفارات سيارات الإسعاف، وتعليقات أولى للمذيعات والمذيعين، وهي تأتي أحياناً سطحية، وكنا لنكتب «مضحكة» لولا اللوعة. والتصريحات الأولى: البطرك وأمين الجميّل، فحوار تلفوني مع... أحمد فتفت. ويكرّ شريط الوجوه السياسية. الصور ذاتها على الشاشة. صبيحة أمس المشؤومة، كانت OTV سبّاقة في الوصول إلى قلب الحدث. سارعت المحطة إلى تحديد موقع الانفجار، ثم إلى إعلان اسم الشخصية المستهدفة، دقائق قبل فراس حاطوم على «الجديد». ونقلت جميع التلفزيونات الصور الحصريّة عن «أو تي في»...
الكاميرا تتجوّل في الركام. الكاميرا تصوّر الناس المحتشدين على جسر «الشفروليه». امرأة تلطم رأسها، وتنهار على حافة الرصيف. الكاميرا تتقدّم لتلتقط فظاعات المشهد، تبحث بين الركام عن مزيد من الضحايا... ولكن أين تقف الكاميرا؟ وكيف تقاوم شهوة الدم... نداء الهاوية؟ لا بد حتّى في لحظة الفاجعة من ضوابط ومعايير مهنيّة وأخلاقيّة (راجع مقالة أخرى صفحة 2). الكاميرامان مصرّ على تصوير الجثث المتفحّمة، وعلى تصوير الأشلاء البشريّة، من زوايا مختلفة. يتبرّع أحد الحاضرين بمساعدة المصوّر، فيرفع بعض الحطام كي يظهر وجه الجثّة بوضوح. تتوقف الكاميرا هنا لحظات نخالها دهراً... كل المحطات نقلت هذه الصور، وكل الناس شاهدوها. كأننا بالتلفزيون يواصل لعبة العنف، يكمّل ــــ من غير قصد طبعاً ــــ ما فعله الانفجار الإجرامي.
قليل من الحياء أيتها الكاميرا! إنها مسؤولية الإعلاميين الأولى: مراعاة مشاعر الناس، وحرمة الموت، واحترام الكرامة الإنسانيّة... حتى في قلب هذا الجحيم.