strong> خليل صويلح
• قرنفل تواجه «الوالي» هذا المساء فـي سوريا

آخر مرّة وقفت فيها على خشبة سورية، كانت في «مهرجان بصرى الدولي»، قبل عشرين عاماً. الليلة تستأنف «السيدة» مع جمهورها الدمشقي (والعربي) علاقة خاصة، لم تتأثر برياح التاريخ التي تعصف بالمنطقة. عشرة عروض لـ«صحّ النوم» لن تشفي غليل الجميع، والاحتجاج وصل إلى مواقع الإنترنت!

سائق التاكسي أبدى استغرابه أن تقام «أمسية» لفيروز في دمشق. قال في منتهى الجدية: «كيف ستغني فيروز في الليل، لقد اعتدنا سماعها في الصباح!» هذه وجهة نظر سائق تاكسي على أي حال، وسط عواصف الآراء المتضاربة في معنى مجيء فيروز إلى دمشق، وكيفية حضور حفلاتها التاريخية شخصيّاً.
لكلّ مواطن سوري سيناريو خاص به لحضور حفلة من الحفلات العشر المقررة لعرض مسرحية «صح النوم» (من 28 ك 2/ينايرحتى 5 شباط /فبراير) ضمن الاحفالات على برنامج «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008». المسألة تدخل في باب التذكار الشخصي في نهاية المطاف، لكنّ الحصول على بطاقة يشبه المعجزة بصرف النظر عن مكابدات توفير ثمن التذكرة التي قالت الشائعات الأولى إنّها لن تقل عن مئة دولار. لكنّ الأمانة العامة للاحتفالية حسمت أمرها أخيراً، ووزعت الأسعار على أربع فئات، تبدأ من ألفي ليرة سورية (40 دولاراً)، وتنتهي بـ... عشرة آلاف ليرة (200 دولار) ،على أن يُرصد ثمن البطاقات لتمويل فعالية ثقافية جديدة في إطار فعاليات الاحتفالية. هناك مثلاً فكرة لتأسيس متحف يضم تراث فيروز والرحابنة.
فور موافقة فيروز على المجيء إلى دمشق، كانت الفكرة أن تقام الأمسيات في ملعب رياضي أو صالة كبيرة، لكنّ الخوف من الفوضى والزحام وعدم انضباط الجمهور، وسوء التجهيزات الصوتية في أماكن كهذه، حالت دون تنفيذ الفكرة، فاستقر الخيار على دار الأوبرا مكاناً لعروض «صح النوم»، علماً بأن الصالة تتسع لـ 1200مقعد فقط. هذا يعني في المحصلة الأخيرة أنّ حوالى عشرة آلاف شخص فقط سيحضرون العروض، فيما ستذهب مع الريح أحلام آلاف (بل عشرات آلاف) السوريين في حضور صاحبة الصوت الملائكي.
ماذا يفعل أبناء المدن السورية الأخرى الذين يتشبثون بتحقيق حلمهم في حضور فيروز منذ شهر على الأقل، وبعضهم استدان ثمن التذكرة لهذه الغاية؟ وما هو مصير الحملات التي تتفاعل على أكثر من موقع إلكتروني سوري في تواقيع مفتوحة لحضور الحفلات مجاناً كي «تكون فيروز للجميع، لا للطبقة المخملية»... و«كي تبقى أيقونة سلام وكرامة وعرّابة أمل»، وفق موقع «زمان الوصل» و«نادي أصدقاء فيروز» الذي تأسّس في هذه المناسبة.
وكان أحد عشاق فيروز بدأ حملة جمع تواقيع، ونشر انطباعات آلاف المعجبين عبر موقع إلكتروني تحت عنوان «حرّروا صوت فيروز»، على أن تُقدم حصيلة هذه الحملة في صندوق إلى فيروز مع لوحات من فنانين رسموا «سيدة الحلم».
لكل هذه الأسباب، هناك مشاورات جدية لمحاولة إقناع فيروز بأن تأتي مرةً أخرى في أيلول (سبتمبر) المقبل، مستعيدة بذلك عادات الزمن السعيد، حين كانت تفتتح «معرض دمشق الدولي» في الستينيات والسبعينيات. هذا الاحتمال قد يخفّف غضب جمهور عريض لن تتاح الفرصة أمامه كي يحضر «صح النوم».
الذين اقتنعوا بأنّهم لن يحضروا فيروز لكلّ الأسباب السالفة، يعزّون أنفسهم بأنّ مسرّحية «صح النوم» (١٩٧٠) قديمة، وبأنهم شاهدوها مصوّرة على شاشة التلفزيون أكثر من مرة... ويضيف هؤلاء: «ثم إنها ستغني بلاي باك» فالخسارة محدودة إذاً. ويتمنّى كثيرون لو أن مشاركة فيروز كانت بحفلات غنائية، لا بمسرحية قديمة نفض عنها الغبار الرحباني الابن، وعادت بتوزيع جديد. لكن من قال لهؤلاء إن المسرحيّة ليست راهنة اليوم أكثر من الأمس البعيد؟... هل قرنفل الأمس هي قرنفل اليوم (قرنفل اسم بطلة المسرحيّة التي تؤديها فيروز).
كلٌّ يبحث عن عزاء شخصي يبرّر غيابه الاضطراري عن هذا الموعد الحيّ مع «السيدة» ويكتفي باستعادة ذكرياته عن العلاقة التاريخية بين فيروز والمواطن السوري، فهو ما أن يستيقظ صباحاً ويدير مؤشر الراديو على إذاعة دمشق حتى يجد صوت فيروز بانتظاره. أما المثقّفون، في سجالاتهم في المقاهي والأماكن العامة، فيستنكرون الحملات التي تدعو فيروز إلى عدم المجيء إلى الشام، وربط الرطانة السياسية بالعشق الشعبي لفيروز، فهي على حد تعبير أحدهم «عنقود عنب لبناني، نضج في كروم دمشق» في إشارة موحية إلى انطلاقة فيروز والرحابنة من إذاعة دمشق في خمسينيات القرن العشرين. كما أنّ فيروز لم تغنِّ طوال تاريخها الفني لأنظمة، بل غنّت للشعوب، غنّت لمدن من القدس إلى دمشق، من مكة إلى بيروت. وهي بذلك خارج الشبهات السياسية. ويشير آخرون لمزيد من الطمأنينة إلى أنّ «فيروز لم تغادر دمشق في الأصل، بدليل أنّ غيابها عقدين من الزمن لم يكسر الحلم» (كانت آخر مشاركة لفيروز عام 1987 على مسرح مدرج بصرى الدولي).
عادل إبراهيم الذي حوّل منذ سنوات إسطبلاً للخيول إلى مقهى، لم يجد أفضل من أغنية فيروز «عالبال» اسماً للمكان، أغانيها كانت ترافقه خلال تجهيز المكان، واليوم يكتفي المقهى المزدحم بأغاني فيروز وصورها على الجدران. وهو حين أسّس مطعماً منذ أشهر في حي باب توما، اختار اسم «سيلينا» المحطة الافتراضية التي غنتها فيروز يوماً.
هكذا، تتجدد الذكريات من تلقاء نفسها، وهي تبدأ بالضرورة من تاريخ 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1952، يوم حضرت فيروز والرحابنة إلى إذاعة دمشق لتسجيل أغنية «عتاب»، وإذا بالأغنية بين ليلة وضحاها تصنع من فيروز مطربةً كبيرة في العالم العربي. وكانت «حاجي تعاتبني، يئست من العتاب» سبباً كي تخصص إذاعة دمشق كل يوم أحد من كل أسبوع لفيروز والرحابنة لتقديم أغانيهم مقابل 25 ليرة سورية للأغنية، و25 ليرة للحن.
نجاح فيروز امتد ليكون موعداً دائماً في ليالي «معرض دمشق الدولي» طوال حقبتي الستينيات والسبعينيات، عبر عشر مسرحيات، إضافة إلى عشرات الأغاني. وكانت أول إطلالة لفيروز على مسرح المعرض في عام 1960... وهي تتذكر هذه اللحظة: «كلما سمعت فاصلاً من موشحاتي، تذكّرتُ دمشق وجمهورها في المعرض الدولي بحرارته ودفقه، ينتهي برنامج الحفلة، ولا يقبل الجمهور بنهايته. أذكر أنّي عدت إلى الخشبة بعدما كنتُ قد نزعت عن وجهي الماكياج، وارتديت ملابس كل يوم... عدتُ لأغني «يا مال الشام». وعندما انتهت الحفلة، وخرجت من الباب الخلفي... ذهلتُ لمرأى الناس يحملون سيارتي».