strong> بشير صفير
منذ سنوات، أراد أحدهم إبهار الجمهور العربي، مستخفّاً بثقافته الموسيقية عبر إطلاق اسم «أوبريت» على أغنية طويلة بعنوان «أوبريت الحلم العربي» أدّاها عدد من الفنانّين من الوطن العربي. تلى هذا العمل السطحي بكل مكوّناته، آخرٌ على الشكل نفسه وعُرّف أيضاً على أنّه «أوبريت»!
يُطلق اسم «أوبريت» على المسرح الغنائي الرحباني، وهو وصف صحيح مئة في المئة، لكنّه يحتاج الى تشريح دقيق لتأكيد صحته. يقول الناقد المسرحي والموسيقي، الراحل نزار مروّة إنّ «المسرح الغنائي الرحابني يختلف اختلافاً بعيداً عن الأوبريت الغربية لأنّ هذه الأخيرة ضعيفة الموضوع ومنفصلة عن الزمن في الغالب...». لم يكن مروّة مخطئاً في هذه المقارنة، لكنّه لم يكن دقيقاً أيضاً. هناك معانٍ عدّة للأوبريت وتسميات مختلفة بحسب المكان والزمان.
ظهرت الأوبريت في النمسا، وعُرفت بموضوعها الفكاهي الضعيف إجمالاً، والمنفصل عن الزمان والمجتمع، وبالتالي ينطبق عليها وصف نزار مروّة. لكن الأوبريت الفرنسية ذات الموضوع الاجتماعي الساخر، والدلالات العميقة وبالتحديد ما أبدعه في هذا الفن جاك أوفنباخ (1819 ــ 1880) هو الشكل الموسيقي والمسرحي المطابق لأعمال الرحابنة. موسيقياً، هو عبارة عن افتتاحية أوركسترالية، وأغنيات في أداء منفرد (aria) أو ثنائي (duo) أو جماعي، وحوارات ملحَّنة مضبوطة، وحوارات ملحَّنة حرّة وحوارات غير ملحَّنة (récitatifs parlés). أما مسرحياً، فيتألّف من موضوع ساخر، يتناول بأسلوب عميق المضمون وبسيط الشكل، قضايا سياسية واجتماعية عامة. إذاً أعمال الأخوين رحباني المسرحية الغنائية هي «أوبريت» بالمعنى الفرنسي في القرن التاسع عشر.
يمثّل المسرح الغنائي الرحباني الإرث الفني الأهم في تاريخ لبنان الحديث، والنتاج الرائد والأضخم في مجاله (عربياً الريادة هي لسيّد درويش). وهو نتيجة لقاء الإبداع الموسيقي المتمثل بالراحل الكبير عاصي الرحباني بالصوت الاستثنائي المتمثّل بفيروز. هذا المشروع الذي بدأه الأخوان رحباني مع فيروز أواخر الخمسينيات والذي عرف مجداً منقطع النظير في الستينيات والسبعينيات مع «بياع الخواتم» و«الشخص» و«جبال الصوان» و«يعيش يعيش» و«صح النوم» و«المحطة»... فقدَ جزءاً من قيمته في «المؤامرة مستمرّة» (1980) و«الربيع السابع» (1984) المسرحيتين اللتين لم تشارك فيهما فيروز. أمّا الخسارة الأكبر، فكانت رحيل عاصي عام 1986. منذ ذلك الحين، تابع منصور مسيرة المسرح الغنائي، وبدأنا وما زلنا نطرح على أنفسنا أسئلة سببها الثُّغر الهائلة في مسرحه: هل كان الأخوان رحباني مثل القلم والورقة، متكاملين في عملية الخلق، وبالتالي، فقدان أحد العنصرين يؤدي إلى شلل كلّي ـــــ لا نصفيّ في الإنتاج؟ أم أن الحقيقة أقسى من ذلك؟!
للمسرح الرحباني ميزات عامة وموسيقية مهمة، كما تشوبه بعض نقاط الضعف في أكثر من عنصر. يعدّ في البداية هذا المسرح الغنائي استثناءً في التاريخ إذ نكاد لا نجد في النتاج العالمي (في الغرب، كما عند سيد درويش في مصر) عملاً من هذه الفئة يحمل توقيع الفنان نفسه نصاً وموسيقى. فالموسيقيّ يتعاون دائماً مع كاتب سيناريو يبتكر قصة أو يولّف رواية قديمة. أمّا الأخوان رحباني، فكانا يتوليان خلق كل عناصر العمل من الموسيقى الى السناريو مروراً بنصوص الأغنيات (باستثناء نصوص وألحان قليلة لشعراء وملحّنين لبنانيين).
كما أبدع الرحابنة في وضع الموسيقى التصويرية الناجحة، كالموسيقى في مشهد نوم الوالي وسرقة الختم في «صح النوم». من جهة أخرى، عرف الرحابنة كيفية توظيف الأصوات المعبِّرة التي اختاروها، كما جذبوا أهم الأصوات في لبنان ولو أنّ بعضها ضعيف في التعبير المسرحي، ونذكر: الصوت الكبير والقادر على التلوين والتطريب مع وديع الصافي، رغم ضعفه في التعبير (ويصحّ الوصف نفسه على صوت صباح). هذا إضافةً إلى الصوت القدير والمعبِّر في المواقف البطولية والرجولية مع نصري شمس الدين، والتعبير الفكاهي الساخر مع فيلمون وهبة، والتعبير البطولي أو السلطوي مع أنطوان كرباج. أمّا فيروز، فكانت تجمع كل هذه الصفات وغيرها. صوتها ــــــ إضافة الى قوته وجماله ــــــ يمكنه أن يعبّر عن البطولة والمراجل والعنفوان والحنان، والسخرية والفكاهة البريئة... ووجد الرحابنة الطريق الى التوازن بين عناصر المسرح وعناصر الموسيقى كما لجأوا إلى أساليب في التأليف والتوزيع الموسيقيَّين عند الحاجة لدعم التعبير، فاستعملوا التوافق والتقابل والآلات الموسيقية من كل نوع.
إذا تناولنا مسرحية «صح النوم» من هذا المنظار فإننا نجد أجمل المحطات الغنائية الموسيقية في ختام الفصل الأول مع «وين بدّو الديب» الغنيّة من حيث التوزيع الموسيقي والآلات المستعملة والتنوع اللحنيّ. وكذلك في ختام المسرحية، هناك «نوم الهنا» التي يتخلّلها فنّ الترجيع في التوزيع الموسيقي (CANON)، وهو لا يعني فوغ (FUGUE) كما يسميه بشكل خاطئ معظم النقاد، إنما هو بداية فوغ فقط، ويتولّاه هنا كورس رجال مقابل كورس نساء مقابل فيروز.
وتتكون «صح النوم» في جزء كبير من الحوارات أو المونولوغات الملحَّنة... وتكمن نقطة الضعف في هذا الجزء في غياب القوافي في الجمل الموزونة (حوار الأهالي وزيدون المستشار في البداية مثلاً). إضافة الى ذلك، هناك الأغنيات، ونقطة الضعف المسرحية (لا الموسيقية) في هذا السياق تكمن في وجود أكثر من أغنية لا علاقة لموضوعها بالمسرحية، كـ«هب الهوى» التي يسبقها موال «بعدك حبيبي» وأغنية «علّو إيدَيْكن»! وهذه نقطة ضعف تكمن في مسرحيات أخرى للرحابنة، تضاف إليها أيضاً ردّات الفعل الجماعية (!) في الحوارات غير الملحَّنة. أعاد زياد التوزيع الموسيقي لـ«صح النوم» فقام بتعديلات طفيفة دون أن يلجأ إلى التغيير الجذري كما في «إلى عاصي».
أما السؤال الأهم، فهو: متى نعيد تقديم مسرحيّات الرحابنة في أداء حي، تمثيلاً وموسيقى؟ فذلك أمر طبيعي يمثّل نصف النشاط الموسيقي الكلاسيكي في العالم، مع أعمال أوبرالية من كل الحقب ولكل المؤلفين... نحتاج أولاً الى سلطة ثقافية رسمية تقدّر هذه الأعمال حقاً، بدل أن تهتم بمنح الأوسمة وبالتكريم... أمّا الباقي، فيأتي تباعاً.



شام أهلوك أحبابي...

«وكانت ليالي دمشق تضاء بنجمة اسمها فيروز، وتنتظر موسمها في مسرح المعرض الدولي كل عام، وهل أحب إلى عاصي من ليالي الشام؟ وهل أطول من آه دمشقية وهي تستمع لفيروز، إلا آهة فيروز وهي تغني: شآم أهلوك أحبابي». هكذا يصف طلال حيدر العلاقة الاستثنائية بين فيروز ودمشق. هذه العلاقة التي لم تتوقف يوماً، منذ أن أهدت أول قصيدة حب إلى المدينة، وكانت بعنوان «بردى» للشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) في عام 1957. وقد قدمتها في ذكرى الجلاء.
وينفرد سعيد عقل بأكبر عدد من القصائد بين 16 عملاً غنائياً قدمه الرحابنة في حب دمشق، بقصائد خالدة مثل «سائليني يا شآم»، و«بالغار كللت»، و«مُرّ بي»، و«أحب دمشق»، و«قرأت مجدك»، و«شام يا ذا السيف»... كما كتب الرحابنة عشرات القصائد في دمشق، أبرزها «حملت بيروت». هكذا امتزج الحنين الرحباني بذاكرة المدينة وحجارتها سراجاً يضيء عتمة الطريق إلى الأبد.