محمد خير
مكافحة الإرهاب في العراق، دعم الجيش اللبناني
في معركته مع «فتح الإسلام»، والترويج لأفكار الحزب الحاكم في مصر... من المحيط إلى الخليج، تغزو الإعلانات السياسية الشاشة الصغيرة. فأي دور تلعب، في حلبة تغيب عنها التعددية والحياة الديمقراطية؟


مجموعة من المسلّحين الملثّمين يهبطون فجأة في إحدى الأسواق في العراق. يشهرون أسلحتهم في وجوه الناس، فيروّعونهم من أجل أهداف لا نعلمها بالضبط. يبتعد الناس خائفين، إلا واحداً لا يلبث أن ينضم إليه آخر، ثم ثالث ورابع. عددٌ قليل يتكاتف ثم يتزايد، بعضهم ملتح وبعضهم حليق، أحدهم يرتدي جلباباً وجاره يرتدي ملابس عادية، أطفال وشباب وشيوخ يحاصرون المسلّحين رويداً رويداً من جميع الاتجاهات، حتى يتجمّع أولئك في منتصف الساحة، قبل أن يولّوا الأدبار بأسلحتهم الخائبة. ثم ترتفع على الشاشة كلمة «اعرف عدوّك».
الدعايات والإعلانات على شاشة التلفزيون لا تقتصر فقط على الأغراض التجارية، وإن كانت تشترك مع الدعايات التجارية في تسويقها لسلعةٍ ما. إلا أنّ التسويق، في حالة الدعاية السياسية، يكون لسلعة معنوية، يفترض أن تترجم لاحقاً إلى فعل مادي. تماماً كما أنّ الإعجاب بدعاية سلعة تجارية، يُترجم إلى إنفاق معلوم لمصلحة منتجي السلعة. وفي الوقت الذي تطورت فيه الدعايات التجارية بصورة مذهلة نتيجة التنافس اللانهائي للسوق العالمية، فإن الدعاية السياسية لم تحقق القدر نفسه من التطور، لأنها لم تضطر إلى ذلك، وخصوصاً في العالم العربي حيث يغيب التنافس السياسي أصلاً، وتربض أنظمة حديدية فوق أنفاس شعوبها لعقود طويلة، تردد المقولات والأفكار نفسها، إلى أن يطيحها انقلاب جديد. لذا، فإن الدعايات التي يبثّها بعض القنوات الفضائية ضدّ الإرهاب في العراق، تحت شعارات منها «الإرهاب لا دين له»، و«اعرف عدوك» و«إنهم يزرعون الموت»... هي دعايات أثارت بعض الشغف لدى المشاهد العربي الذي لم يعتد رؤية الدعايات السياسية خارج تلفزيونه الرسمي. ذلك أنّ الدعايات التي تعوّد عليها تفتقر إلى الخيال والجودة، وتغصّ بالألفاظ الآمرة التي يعرف صانعوها أن المواطن مجبر لا بطل. كما أنّ دعاية القائد والأمير والملك والزعيم هي من قبيل التذكير ليس إلا، لا من قبيل تحريك فعل سياسي ما لدى المشاهد. بالأحرى، هي صُمّمت لضمان عدم الفعل.
وإذا كان فنّ الدعاية قد تجاوز منذ أمدٍ بعيد فكرة مخاطبة العقل، عامداً إلى مخاطبة اللاوعي بالتلميح وربط السلعة بالرغبات المشهرة والمخفية، فإن هذا التطور الذي لحقت به بعض الدعايات في عالمنا العربي، لم يصل إلى إعلاناتنا السياسية بعد. هي ما زالت جافة تتعامل مع المستوى الأول من الوعي، ومباشرة تصطدم بجبهة المشاهد، وتسوّق ما تريد من دون لفّ أو دوران، محددة وصريحة وواضحة في بلدان تتفشّى فيها الأمّية. وفي مقابلها، تأتي الدعايات التي ترفض الإرهاب في العراق: صورةٌ مميّزة وتنفيذ محكم وبراعة في استخدام الغرافيك. لكن الرسالة غامضة، على رغم وضوح الشعارات، ذلك أن انضمام العراقي إلى جماعة مسلّحة ليس سببه أنه لا يعرف أن «الإرهاب لا دين له»، كما أن الإرهابي لن يترك جماعته لمجرّد أن يشاهد هذه الدعاية أو تلك. أضف إلى ذلك ما يحمله الشعار المسطّح والمبسّط من إخلال بالغرض والمفهوم، وتجاهل حقيقة أنّ أعضاء تلك الجماعات يحملون فهمهم الخاص ـــ الخاطئ ـــ للدين.
لكن الخطأ الأكبر في الإعلان هو أن يصوّر الإرهابيون، كأنهم لا علاقة لهم بالمسألة الدينية برمّتها («لا دين له»)، أو كأنهم لا يميّزون بين الطوائف والمذاهب... فمثل ذلك التصوير هو في أفضل الحالات مناف تماماً للواقع، ويوضح إلى أي مدى لم تتطور الدعاية العربية السياسية فكرياً على قدر تطوّرها تقنياً. ونماذج الدعايات المذكورة عن الإرهاب في العراق، يكاد كل منها يكون فيلماً قصيراً، ما يتناقض ببساطة مع تطور الدعاية التي تقاس براعتها في قدرتها على تلخيص الكلمة ـــ إن وجدت ـــ وتكثيف الصورة.
على سبيل المثال، نجدُ تلك الدعايات التي انتشرت في الشوارع اللبنانية أثناء معركة الجيش مع«فتح الإسلام»: يقفُ رجل مدني رافعاً يده إلى مستوى رأسه بالتحية العسكرية المعروفة، وفوق رأسه عبارة «بالقلب يا وطن». وكلمة وطن تؤدي معنى مزدوجاً (البلد / الجندي)، والصورة تعكس اندماج المدني بالعسكري.
على صعيد آخر، يُعَد «الإلحاح» عنصراً يكسب دائماً سباق الدعاية. هكذا، يستخدم الحزب الوطني الحاكم في مصر عبارة «فكر جديد» في دعاياته التلفزيونية، وخصوصاً أثناء انعقاد مؤتمره العام. إلا أنّ تلك العبارة القصيرة المركّزة والملخّصة بكلمتين، تواجه مشكلة المقارنة مع الواقع السياسي: إنها تروّج لسلعة يستهلكها المواطن فعلاً منذ عشرات السنين، وهي سلعة لا يمكنه استبدالها، ما جعل دلالة الدعاية تنحو نحواً مختلفاً، فتصبّ في سياق تيار جديد، صارت له الغلبة في الإمساك بمقدرات الحزب، وخصوصاً مع الصعود السياسي لجمال مبارك. فكأن الدعاية تروّج لذلك التيار الذي يمزج بين «البزنس» والسياسة. وربما لطبيعة ذلك المزيج، أصبح أكثر اعتماداً ـــ من سابقيه ـــ على الدعايات التلفزيونية.
إلا أن دعايات أخرى كانت أكثر إثارة للحيرة، فنرى كهلاً خليجياً يقف في الطريق وقد تعطلت سيارته. تتوقف إلى جواره سيارة أخرى تحمل عدداً من الشبان الذين ينزلون لمساعدته وإصلاح سيارته، بينما نسمعُ عبارة «البركة بالشباب». إنه نوع من الدعاية «الأخلاقية» التي يصعب ـــ في ظلّ السوق ـــ فهم الدوافع المباشرة لمموّليها. على عكس الدعايات التي يموّلها مجلس الضمان الصحي السعودي، والتي اشتهرت بعبارة «المهم صحتك»، داعيةً الناس إلى عدم الانفعال خلال العمل إلى حدّ قد يسبب الأذى الصحي. هي دعايةٌ محمودة على كل حال بالنظر إلى انفصالها عن أي مشروع تجاري أو سياسي، أو حتى قانوني مثل الدعاية لأهمية التأمين الصحي. وهي دعاية كان واضحاً أنها موجّهة إلى العمال الأجانب في الخليج أكثر من المواطنين، إذ إن الإعلان، على الرغم من تمويله وبثّه خليجياً، استخدم اللهجة المصرية!