strong> علاء اليوسفي
إذا كنتَ تشاهد المؤسسة اللبنانية للإرسال، فالأرجح أنك ستخضع لإمرة الصمت الذي يفرض نفسه فجأة على الشاشة، برداء أسود! صمتٌُ يأتي على متن إعلان غير تقليدي، لا وجود فيه لصور أو مشاهد، ولا يرافقه صوت بشري، أو حتى موسيقى تصويرية. فكيف نجح إعلان «دقيقة صمت» في النفاذ عبر الشاشة، فارضاً سطوته على الغرفة، ومن فيها؟
يتحدّث الإعلان باسم فئة غير قليلة من اللبنانيين. هو لا يتحدّث بالمعنى الدقيق للكلمة، بل يشكو، ويتأفف، ويتنهّد، ويتحسّر، ويضرب كفاً بكف... من خلال الصمت!
الصمت لم يعد يمثّل هنا حالة سلبية، بل يضعنا أمام لغة تعبيرية بليغة، استطاع مبتكر الإعلان أن يستثمرها، إذ لم يكن لأي لغة أخرى أن تؤدي الرسالة المطلوبة، أو أن تستعيض عن الصمت وسيلةً بيانية.
وقبل الحديث عن العناصر الفنيّة، فإن «دقيقة صمت» يستمدّ شرعيته قبل أي شيء من شكوى مواطنين، لم يعد لهم حيلة تجاه ما يجري على الساحة اللبنانية. مواطنون وصلوا إلى حدّ القرف، وهم ينوءون تحت ثقل أزمة معيشية وأمنية ونفسية، هي أهم بالنسبة إليهم من أي قضية أخرى. أناس تعبوا من الشكوى ومن الحكي، وصار الصمت أقرب إليهم من لوعة التشكّي، بعدما فقدوا الأمل بانفراج قريب، أو بعيد. إذاً «من وحي المأساة والحكي الفاضي»، يأتي هذا الإعلان. تبرز الجملة الآنفة في مستهلّه، لتنقل المشاهد من حالة إلى عكسها تماماً، وبصورة مفاجئة تفرض الانتباه... إلى أن شيئاً ما قد تغيّر. فما الذي تغيّر؟
ضوضاء مصدرها صوت التلفزيون... تبدّل سريع في أضواء الشاشة... إيقاع ضوئي ـ صوتي يعلو ويهبط باستمرار مع تبدّل المشاهد والصور على الشاشة... كلّ ذلك ينتهي عندما تبرز على الشاشة، على خلفية سوداء وضربات موسيقية خفيفة، جملة «من وحي المأساة والحكي الفاضي»، تتبعها مباشرة عبارة «دقيقة صمت». بذلك تنقطع حالة الحركة لتحلّ محلها حالة من السكون تبشّر بالاسترخاء، قبل أن تخضع المشاهد إلى حالة من الاستلاب، غايتها... تركيز الانتباه على الشاشة السوداء، في انتظار العبارة الثالثة والأخيرة.
قد لا نجانب الصواب إذا قُلنا إن الإعلان يلعب هنا، تحديداً، على سياقات نفسية معقدة. دقيقة من الصفاء الذهني قد يكون المشاهد بحاجة إليها ربما أكثر من مشاهدة التلفزيون بعد يوم شاق من العمل. لكن من يجرؤ على هذه التجربة، مع وجود العائلة أو حتى من دونها؟ يلعب الإعلان على هذا الوتر المشدود بوتد الحياة الروتينية ووطأة العادات العصرية التي يفرضها التلفزيون، الرفيق الدائم لأقفية المتمددين على الكنبة من مختلف الأعمار. تفرض تلك العادات علينا مثلاً تناول الطعام في المنزل على ضوء الشاشة الصغيرة، إلى درجة لم يعد ملائماً السؤال: «هل تفضل تناول الطعام وأنت تشاهد التلفزيون، أو تفضل أن تطفئه أثناء الأكل؟». مثل هذا السؤال يصبح «بلا طعمة»، ومن الأحرى استبداله بسؤال آخر مثل «هل تشعل التلفزيون، أم تضع الصينية على الطاولة أولاً؟»... الآن، ما هي نسبة الذين يضحّون بالتلفزيون من أجل الاسترخاء، مع وجود الرغبة المستمرة في الاسترخاء والمشاهدة في آن؟
الإعلان لا يزال مستمراً، وهو يحل هذا الارتباك بجواب نابع من قرارة النفس... دقيقة صمت تفرضها الشاشة من خارج إرادتنا يمكن احتمالها، وقد تصبح مطلوبة. المشاهد الآن لا يفكر بهذه التساؤلات، فهو منساق إلى الصمت على خلفية سوداء، يتلمس تعبه ويفكر بلقمة العيش وقلّة الحيلة. وعلى ضربات موسيقية خفيفة تبرز الجملة الثالثة بلون أبيض لتختم الإعلان... «مواطن لبناني تعبان من كترة الحكي».
«دقيقة صمت» إعلان يستحق التوقف عنده، ليس فقط بسبب عدم انتمائه إلى الإعلانات التقليدية، بل أيضاً لبساطته واستغنائه عن المعدات والآلات... ليصبح إعلاناً من دون تكلفة مادية. لكن، بعيداً من مضمون الإعلان، يبقى السؤال عن هدف LBC من تبنّي هذه الدعاية وعرضها: هل تسعى من خلالها إلى توخي الصدقية حيال جمهور ملّ حقاً كثرة الكلام في السياسة؟ أم أن المحطة التي تقترب في سياستها التحريرية وبعض برامجها السياسية من أحد الأطراف المتنازعة في البلاد، تريد أن توصل رسالة أخرى، عن مواطن تعب من كثرة «حكي» الطرف الآخر؟