strong> بيار أبي صعب
•«أولاد الحاخام الاثنا عشر» إلتقوا في فيلم ياعيل بيتون

قصّة عائلة يهوديّة مغربيّة رحّلت من أرضها في العام ١٩٦٣، مسكونة بحلم الانتقال إلى أرض الميعاد. لكنّ الحلم تحوّل كابوساً، وتفرّق أولاد الحاخام مخلوف بيتون في أرض التيه. الحفيدة ياعيل، حملت الكاميرا واقتفت أثرهم، بين مرارة الخيبة وأشباح الماضي البعيد

من جهة، هناك السينمائيّة المصريّة نادية كامل. الطريق إلى ذاكرتها الشخصيّة ـــــ ذاكرة عائلتها المتعددة الهويات والروافد ـــــ قادتها في «سلطة بلدي» إلى إسرائيل. وهي إشكالية يجب أن تناقش بكثير من التروّي والنزاهة: على قاعدة احترام حريّة ضمير هذه الفنانة ونواياها النبيلة وخطابها المركّب. لكن، مهما ركزت نادية على الجانب الإنساني بصيغة المفرد، ومهما بلغت جرأتها على تجاوز المحظور (وهو من أبسط حقوق أيّ مبدع، بل من واجباته)، يبقى نصب أعيننا أن إسرائيل هي، بالدرجة الأولى، كيان مغتصب ودولة معادية شيّدت على أرض عربية، لا أرض عبور سهل أو بلاد سياحة عاديّة؟ ومن الجهة الأخرى، السينمائيّة ياعيل بيتون، الطريق إلى ذاكرتها الشخصيّة، ذاكرة عائلتها المبعثرة اليوم بين قارات ثلاث، قادتها في الاتجاه المعاكس: من إسرائيل... إلى بلاد المغرب حيث تجذّرت عائلتها قروناً، قبل أن تقتلعها الأيديولوجيا الصهيونيّة، وأوهام أرض الميعاد، وتدخلات المستعمر الفرنسي الذي عمل على عزل اليهود عن محيطهم الطبيعي.
«على مدى ألفي عام وأكثر، عاش اليهود في المغرب مع المسلمين، في علاقة قائمة على الاختلاف والتكامل. كلّ يتأثر بالآخر ويؤثر فيه بعمق، عبر اللغة والأزياء والموسيقى...». هكذا تستهلّ بيتون «أولاد الحاخام الاثنا عشر»، فيلمها الصادق والموجع. إنّه محاولة تجميع نثار الذاكرة، ومساءلة الهويّة، ومراجعة الماضي المكبوت. كأننا بياعيل تريد اختراق الأسرار القديمة، وطرح الأسئلة الممنوعة التي حملتها معها، منذ طفولتها الأولى، وجعاً غامضاً وفراغاً محيّراًً.
ولدت هذه السينمائيّة وترعرعت في النعيم السويسري، بلد أمّها، من أب يهودي مغربي هاجر أهلُه إلى إسرائيل. تخرّجت من معهد INSAS السينمائي في بروكسيل، وعملت مع فيم فيندرز وآخرين. وتعيش اليوم بين باريس ونيويورك حيث حققت فيلماً لافتاً عن جشع المستثمرين العقاريين الذي يبتلع أحياء شعبية كاملة في الإيست فيلدج، أسفل مانهاتن («ليس للبيع» ـــــ ٢٠٠٢).
أما إسرائيل فهي المكان المجرّد. البلدة المستحدثة التي كانت تقصدها صغيرة مع أبيها خلال العطل الدينية، حيث تجتمع العائلة الكبيرة في كنف الجدّ العجوز. تقول إنّها كانت موزعةً حينذاك بين حالة فضول وفرح، وشعور غامض بالضيق والانزعاج. ثم كبرت وأرادت أن تعرف. التقت بعمّاتها وأعمامها ووالدها ميخائيل، أبناء «الرابي» مخلوف وبناته الاثني عشر. مضت إليهم في جنيف ونيويورك وأشكلون وسان فرانسيسكو وفلوريدا ومدن أميركيّة أخرى، تريد أن تعرف. لماذا تركوا المغرب؟ كيف تمّ ذلك؟ هل هم نادمون؟ ماذا عن ذكريات الزمن السعيد والأيام الصعبة في المغرب، بين شاطئ مازاغان في عطلة الصيف... وسنوات التوتّر التي رافقت استقلال المغرب (١٩٥٦)، وما تلاها من حملات منهجيّة لترحيل أبناء طائفتها (تم ترحيل ٢٥٦ ألفاً، أي قرابة ٩٠ في المئة من يهود المغرب بين ١٩٦٢ و١٩٦٤).
هذا الموضوع سبق للسينمائي المغربي حسن بنجلون أن تناوله قبل أقلّ من سنتين، في شريط بعنوان «الحانة» (مقالة ياسين عدنان في «الأخبار» ــــ ٢٥ أيلول/ سبتمبر ٢٠٠٦). لكن فيلم ياعيل بيتون تكمن أهميّته في بعده الذاتي والحميم، إذ يصوّر ملحمة عائليّة تتشكّل وتتفكّك أمامنا على الشاشة بحياء ومرارة. العم الثالث دايفيد يقول: «لم يكن ينبغي لنا أن نترك المغرب»... على الجدار فوق مكتبته ما زال يحتفظ ببطاقة عليها عنوان متجر عند الرقم ٣٧ من زنقة العطارين في الصويرة. نقرأ أيضاً على بطاقة أخرى اسم محمد بن دهمان... إنّها آخر بصمات الزمن القديم. «كنا في أسوأ الحالات، أحياناً فقط، إذا تخاصمنا مع أحد الأولاد يشتمنا: «أيها اليهودي القذر»، ونردّ: «أيها المسلم القذر». أما هنا، فالجميع ينعتنا حتّى اليوم بـ«المغاربة الأقذار».
عمّها العاشر، سيمون، يتذكّر كيف طرد من الصفّ، في المدرسة الإسرائيلية، هو ورفيقه لأنهما المغربيان الوحيدان. سيمون نفسه، قال للقائد العسكري الذي يريد تجنيده بعد سنوات: «هذه ليست بلدي. إذا أردتم منّي أن أحارب عنكم، فأنا أطلب في المقابل أن تأخذ الدولة على عاتقها معاش أبي العجوز». وهكذا كان، فحارب وأصيب إصابة بالغة في غزّة، أقعدته ٣ سنوات طريح السرير.
كان والدهم الرابي مخلوف بيتون يتوقع حياة أخرى في انتظار شعب الله المختار. أما زوجته سعدى، فلم تكن تريد مغادرة المغرب، أرض أجدادها، لكنها لحقت بالرجل الورع الذي درس في مدرسة دينيّة (yeshiva) في مراكش ليصبح حاخاماً. كان كلّ حياته مسكوناً بحلم العودة إلى أرض إسرائيل، ليكون له كنيس هناك. الصفعة الأولى تلقّاها بعد ساعات من الوصول إلى أرض الميعاد، في الباص حيث رماه الجنود غير آبهين بسنّه ومرضه، حين رفض أن يدخل المسكن الوضيع الذي كان في انتظاره.
ثلاثة أعمام فقط يعيشون اليوم في إسرائيل، الآخرون انتشروا في بلاد الله الواسعة. في العائلة تختلط المغربيّة بالعبريّة، والإنكليزيّة بالفرنسيّة... هؤلاء ورثة الكوسموبوليتيّة، ما زالوا اليوم يهوداً تائهين. الحاخام نقل إلى معظم أبنائه حبّ الكتاب بالمعنى الواسع للكلمة، تقول العمّة النيويوركيّة دنيز. ولعلّ والد ياعيل ـــــ أحد محاور الفيلم ــــ هو الأقرب إلى نموذج المثقف اليهودي النقدي الذي يستعيد ذلك الماضي اليوم بكثير من التجرّد والصفاء. هرب من المدرسة في مراكش ليناضل في صفوف «جمعيّة غوث المهاجرين العبرانيين» HIAS، مع صحبه وأبناء عمّه وبعض إخوته، هذه الجمعيّة الأميركية التي قامت بدور أساسي في تهجير يهود المغرب، أي في قاموس آخر: مساعدتهم على تحقيق حلم العودة أو الـ ALIYAH. كان الصبية يدورون على العائلات اليهوديّة سرّاً، وينظمون الحلة من مراكش إلى ميناء الدار البيضاء حتى ركوب الباخرة. يروي ميخائيل بيتون كيف وصل إلى إسرائيل بعد ذلك، والازدراء الذي قوبل به حين قال إنّه يريد متابعة الدراسة. العمل في ورش البناء، كان كل ما كان في وسعه أن يفعله في أرض الميعاد.
وذات يوم، تدبّر منحة دراسيّة إلى مدينة ستراسبور الفرنسيّة، باعت أمّه صيغتها واشترت له ثمن البطاقة... ولم يعد إلى إسرائيل. الكاميرا تحاوره في أحد صالونات بيته السويسري الجميل، ثم في المطبخ، في الغرفة التي تكدّست فيها أكياس الصور والذكريات. «أمّك هي الصليب الأحمر الذي أنقذني»... يقول وهو يقلب الصور القديمة التي هي آخر ما بقي من الحلم، من الحكاية القديمة. لقد خُدعنا، يقول الابن السادس للرابي مخلوف. نتذكّر «المخدوعون» فيلم المصري توفيق صالح عن رواية غسان كنفاني الشهيرة «رجال في الشمس». «أولاد الرابي الاثنا عشر» هم إذاً مخدوعو الضفّة الأخرى. ومع ذلك يتردد والد ياعيل في اختيار المكان الذي سيدفن فيه... هل يكون قرب والده هناك؟ أم في بلاده الفعليّة هنا في سويسرا، إلى جوار زوجته؟ ينتهي الفيلم على تلك الحيرة. ونتذكّر قولاً استهلّت به بيتون فيلمها، للشاعر والفيلسوف والطبيب يهودا هاليفي بن صموئيل الذي مات في القاهرة عام ١١٤١: «إني لا أراك، لكنْ في قرارة نفسي، بوسعي أن أسمع وقع خطواتك».



فـي الطريق إلى أشكلون

في الطريق إلى أشكلون انهار حلم إسرائيل! فوجئ أبناء الحاخام المغربي بهؤلاء الفتيان الذين يلبسون ملابس رثّة، أو تفتقر إلى الذوق والأناقة. «جاؤوا بنا ورمونا هنا»، يقول اليوم أحدهم. اليهود الشرقيون شكّلوا متاريس بشريّة في أشكلون وسواها. كانوا يحلمون بـ«أورشليم»، فرموهم في أحياء مستحدثة. ١٥ شخصاً في الشقة الواحدة. استقدموهم ليكونوا يداً عاملة، حشوداً عدديّة لملء البلاد الجديدة. أما الاشكناز فكانوا يعرفون بالضبط ما يريدون، فتحت لهم المدارس كي يحكمونا...
مع ياعيل ندخل إلى بيوت الأعمام والعمّات، في مختلف مدن المنفى، نشاركهم المآدب والنقاشات. نكتشف التفاوت الطبقي والاجتماعي والثقافي بينهم. معظمهم يتعرّى بسهولة أمام الكاميرا، يجيب عن أسئلتها المحكمة، ويستعيد الماضي الأليم، وراهن الخيبة. بين حبّ ما لإسرائيل لم يتزعزع، ونقمة قويّة عليها. «لكن ماذا لو بقيتم هناك؟»، تسأل. المنظمات الصهيونية أقنعتهم بأن الجنّة في انتظارهم. والاستعمار أقنعهم أن الخطر الحقيقي هو أن يتمّ استيعابهم في مجتمعاتهم العربيّة، وأنظمة الحكم غير المطمئنة على الإطلاق (فزاعة الدولة الإسلاميّة) فعلت الباقي... هكذا ضاعت المغرب، ولم يتحقق الموعد في أرض الميعاد.