strong> حسين بن حمزة
•جائزة «كيكا» لشاعر عُماني يترك بصماته على الصور والكلمات
في بيروت صدرت أخيراً مجموعته «كلما ظهر ملاك في القلعة»، ومن لندن أعلن قبل يومين فوزه بجائزة «كيكا». وقفة عند قصيدة تربّت بين المنافي، وتغذّت بمكوّنات لغويّة وتخييلية خاصة، وحقّقت لصاحبها مكانة على حدة فوق خريطة الشعر الجديد

لعل كثيرين لا يعرفون زاهر الغافري (1956). وهذا لا يشمل جمهور القراء فقط، فهو ليس متداولاً إلا لدى حلقة ضيقة من الشعراء أيضاً. لكن مهلاً، هذه ليست مناسبة للشكوى أو توجيه التهمة إلى أحد، وهي تهمة لو وُجِّهت لبدت صائبة على أي حال. المقصود هنا امتداح تجربة هذا الشاعر العُماني الهوية والمولد، والسويدي الإقامة الذي نقل قصيدته معه، معرِّضاً سجاياها وطبائعها لأكثر من هواء شعري، وأكثر من بيئة شعرية.
الأرجح أنّ الشعر الذي يكتبه زاهر الغافري يسهم في جعل اسمه بلا ضوضاء. قصيدته هادئة ورائقة وذات صوت خفيض سواء في النبرة، أو في تصيّد المعاني والاستعارات والصور. دأبه الجِدّي، والخافت في الوقت نفسه، على تطوير التجربة واستدراج مكوّنات لغوية وتخييلية إلى المعجم الشخصي للشاعر. كل هذا يُفرد للشاعر مكاناً على حدة، ليس داخل الشعر العُماني وحده، بل داخل خريطة الشعر العربي كلها.
صاحب «أظلاف بيضاء» (1984)، وهي مجموعته الأولى، كتب قصيدته مصغياً إلى أفضل تقاليد الخفوت والتروّي والدقة والحياد العاطفي في الشعر العربي الراهن. وهو إصغاء يستحق الإطراء إذا علمنا أن هذه التقاليد لا تزال شحيحة وضئيلة الحضور في المشهد الشعري العربي العام. وهذا يعني أن الغافري امتلك منذ البداية خياراً مبكراً ، جنَّب فيه تجربته من الغرق في وحول البلاغة والتفجع اللغوي والتهويم اللفظي.
استأنس الغافري بما هو خافت. فكتب قصيدة أقرب إلى «الشعر اليومي»، لكنه لم يتخلَّ عن الكثافة والتفلسف الذاتي واستكشاف مناطق شعرية غير مأهولة. لم يعزل نصّه عن أي طرح شعري، لكنه سعى دوماً إلى تأمين مكان لائق لهذه الطروحات تحت سقف هذا الخفوت. كأن الجلبة، إذا استفردت بالقصيدة، تفسد الشعر أو تجعله يغالي في إيصال المعنى المباشر على حساب التخييل. والقارئ يجد نجاحات كثيرة تتحقق في هذا المسعى، إلى حد أن الشاعر بات يُعرف بصفات الخفوت والمحايدة وخفض ضجة الكلمات وهي تتجاور لتؤلف الجملة الشعرية. وهذا ما يمنحه بطاقة العضوية في نادٍ شعري قليل الأعضاء وشديد الحضور في آن واحد.
أقام زاهر الغفري فترات طويلة في العراق والمغرب والولايات المتحدة، وأخيراً في السويد حيث يعيش حالياً. وإذا كانت هذه السيرة المتفرّدة تعطي لتجربته طابعاً اغترابياً أو مهجرياً، إلا أنّها تكشف، أيضاً، عن احتكاك، طوعي أو متعمّد، مع المناخات الثقافية والشعرية المتعددة والمتنوعة التي كتب فيها الشاعر قصيدته في ظلالها. من السهل على القارئ المتمعّن في تجربة الغافري ألّا يصنِّفها، أو يتعامل معها، بصفتها عُمانية فقط. الولادة تحدّد الهويات في جوازات السفر، لكنها لا تصنع، وحدها، نبرة الشاعر وطموحاته. وكثيراً ما ترجم الغافري سيرته وضمّن ترحاله الدائم في قصائده: في مجموعته الأخيرة «كلما ظهر ملاك في القلعة» («دار الانتشار العربي» ــــ 2008) يقول: «من مدينة إلى أخرى/ عبر بقاع العالم/ أخوض في أنهار خالية من الصداقات». وفي مكان آخر يكتب: «أسمع في بلد بعيد / مرثية عن نفسي / كأنما القدر يعود إلى الوراء / إلى أرض العواصف / هناك حيث يترمَّد العالم».
لقد استمع صاحب «عزلة تفيض عن الليل» (1993) إلى أصوات عدّة، وميّز ما يلائمه منها، وترك ما يمكن أن ينشِّز صوته الخاص. إنه يضع بصمته على الكلمات والصور التي يسمح لها بالمرور إلى مخيلته. لقد لاح ذلك حتى في عناوين مجموعاته، حيث نجد مفردات مثل: الصمت، العزلة، الظلال، الليل، تؤدي دورها المطلوب في تهيئة مزاج القارئ للتجوال في قصائد الشاعر.
ويمكن تلمّس معظم هذه السمات في بيان جائزة «كيكا» التي مُنحت للغافري قبل يومين. فالشاعر الأردني أمجد ناصر (وهو أحد الأعضاء المخضرمين في نادي الشعر الخافت) الذي ترأس لجنة الحكم، وضع يده على المكوّنات الأكثر تأثيراً في تجربة الغافري. ما يميّز الغافري هو أنّه يتقن تغذية شعره بما يحفظ له خصوصية نبرته. جزء كبير من هذه الخصوصية يتأتّى من الكيفية التي ينجز بها صوره واستعاراته. ثمة معجم كامل يجري تكييفه مع مزاج القصيدة. لهذا، غالباً ما يعثر القارئ على صور مباغتة ومدهشة. ورغم أن الشاعر يبتكرها من مادة قصيدته نفسها، إلا أنّ الصور تأتي متجانسة مع لغة القصيدة ككل. مردّ ذلك أن صاحب «أزهار في بئر» (2000) بات على معرفة حميمة بقصيدته وهي تبادله المعرفة ذاتها. ثمة صور كثيرة يمكن الاستشهاد بها في هذا السياق. لنقرأ: «تنتظر، هنا تحت الثلج، أن يقفز من بحيرة خيالها / مالك الحزين / ليجلب لها السعادة»، وكذلك: «الطرق المحرّمة تظهر تحت أقدامي» وأيضاً: «إلى متى/ المربيّة بسنٍّ ذهبية/ تتجول في غرف الليل». يستطيع القارئ أن يجد المزيد من الأمثلة التي تشهد على أن الشاعر يفضِّل العمل على أحشاء القصيدة أكثر من سطحها. وهذا يعيد إلى البال فكرة أن قصيدة الغافري قليلة الجلبة، لأنّ الأصوات الناشئة عن الكتابة تظل مكتومة ومدفونة تحت سطح العبارة.
قصيدته تواجه القارئ بالمعنى المبطّن. الأفضل أن نقول إنها تُسِّلم نفسها لذائقته وتُهديه بسرعة إلى عالمها المتفرّد. الفرادة هنا ليست أمراً شكلياً. إنها مصنوعة من مساعٍ وممارسات شعرية متعددة.
لا تقوم قصيدة الغافري على بنية موحّدة ومتماسكة، ولا تتوالى فيها الصور وفق خط مرئي، لكن هذا ليس سوى إيحاء ظاهري فقط. صحيح أن القصيدة لا تعتمد على سردية واضحة، إلا أنّ هذه الصفة تمثل واحدة من ميزات حداثة شعره وخصوصية تجربته. ثمة وعي نقدي متقدّم يتمشى في جسم القصيدة ويرافق ابتكاراتها وصورها المتتالية. واللافت أن الشاعر ينجح في حجب هذا الوعي عن القارئ تاركاً إياه بصحبة القصيدة وحدها.




strong> بعيداً عن التفجّع العاطفي والهجاء السياسي

جاء في بيان لجنة تحكيم جائزة «كيكا» للشعر التي ترأسها الشاعر الأردني أمجد ناصر هذا العام، أنّها «تكافئ قصيدة شبَّتْ في المنفى، واحتمت بظلال بعيدة عن مساقط ضوء خارجية، والتفَّتْ حول نفسها كنواة جمالية صلبة متشبثة بنزعة تعانق الحلميّ والجرح الإنساني والهامش المتروك والعوالم الآفلة... وهذه ميزة جنّبت قصيدة الغافري التفجع العاطفي أو الهجاء السياسي لواقع الحال. ففي تجربة زاهر الغافري التي امتدت أكثر من ربع قرن، عاشها كلها خارج بلاده، غنائية إنسانية كتيمة وجارحة ورواقية شفيفة لا تنكسر أمام شقاء الإنسان في العالم...». ويلفت البيان إلى أن الشاعر «عمل في ظلال صمته وكدحه، على تطوير قصيدته بعيداً عن التقليعات التي تطرأ على المشهد الشعري العربي ولا تبرح تختفي في إطار نزاعات الشكل والأسلوب...». و«كيكا»، كما هو معروف، موقع مشرّع للأدب والشعر والتعبير الحرّ والكتابات الإبداعيّة والذاتيّة والنقديّة، أطلقه قبل سنوات من لندن الشاعر والناشر العراقي صموئيل شمعون.
أما زاهر الغافري، الشاعر الفائز بالجائزة، في دورتها الثانية (بعد الشاعرة السوريّة رشا عمران)، فولد في عُمان عام 1956. تنقّل بين عدد من البلدان العربية والأجنبية، منها العراق والمغرب وأمريكا. ويعيش منذ سنين طويلة في السويد. أصدر خمس مجموعات شعرية على امتداد ربع قرن: «أظلاف بيضاء»، «أزهار في بئر»، «عزلة تفيض عن الليل» و«ظلال بلون المياه»، و«كلما ظهر ملاك في قلعة».