محمد خير
حين تحتكر شبكة سعودية قسماً أساسياً من المشهد الرياضي العربي، ويبثّ التلفزيون المصري مباريات «كأس الأمم الأفريقية» لكرة القدم باللغة الفرنسية، ويستعين الجمهور بالإذاعة حتى يستمع إلى التعليق! «الفقراء» أعلنوا الثورة على art التي حرمتهم متعة «الكورة»... انطلاقاً من القاهرة

في رواية أحمد العايدي «أن تكون عباس العبد»، يقول البطل: «قل لي ما هي أوبشناتك أقل لك من أنت»! «أوبشناتك» هي تمصير لكلمة options، ووفقاً لبطل الرواية، يتحدد مسارك ومصيرك في الحياة على قدر ما تمتلك من هذه الـ«الأوبشنز». يمكن تعميم ذلك أيضاً على المجتمع برمّته، فهناك مجتمعات يمكن فيها أن تأكل بقيمة دولار، أو عشرة دولارات ومئة، وهناك مجتمعات أخرى إذا لم تجد فيها طعاماً بدولار، فإنك ستموت من الجوع. لكن المثال الأفضل لشرح ما سبق هو عالم التلفزيون، خصوصاً التلفزيون الرياضي حيث سيطرت مجموعة قنوات art على معظم ما فيه من «options»... حتى كاد الجمهور يكره الرياضة والمباريات أو يقاطعها، قبل أن يبدأ ذلك الواقع بالتغيّر فجأة، كما يحدث الآن من خلال مباريات كأس الأمم الأفريقية «غانا 2008».
لأسباب متنوعة، كان لبنان البلد العربي الوحيد الذي استطاع إيجاد صيغة ما، مكّنته من التوأمة مع الحصرية الكروية لشبكة «آي آر تي». الصيغة اللبنانية هي أقرب لسياسة الأمر الواقع: مبلغٌ محدد يدفعه مقدمو الخدمة إلى الشبكة السعودية الشهيرة، ومن ثم يستمتع اللبنانيون بماريات المونديال وغيرها. والظرف الاستثنائي اللبناني سببه أن معظم اللبنانيين يدفعون فعلاً اشتراكاً شهرياً، يحصل عليه مقدمو الخدمة، المتعددون والموزعون على المناطق، بشكل يصعب حصره أو السيطرة عليه ضمن إطار قانوني. لكن الوضع في بقية العالم العربي يختلف، حيث الغلبة لمستخدمي الأطباق الصغيرة التي تستقبل إرسال القنوات المجانية. هؤلاء أبناء ثقافة عوّدتهم فيها الدولة على شراء حقوق بثّ مباريات بلادهم، وإذاعتها على المحطات الأرضية على الأقل. هذا الجمهور الواسع لم يتقبّل بتاتاً فكرة أن يُحرَم من مشاهدة مباريات منتخب بلاده، لمجرّد أن جهة ما دفعت مبلغاً أكبر لتحرم الفقراء من أهم متعهم، فظلّ ينظر إلى تلك الجهة وصاحبها السعودي الثري، على أنه «سارق الفرح»، كما يقول عنوان الفيلم الشهير لداوود عبد السيد.
في الوقت الذي استطاعت فيه معظم الحكومات العربية التصرّف حيال أزمة بثّ المباريات، بمكرمة من الملك أو تفاهم من الأمير أو مبلغ ضخم تدفعه الحكومة إلى الشبكة السعودية، فإن مصر كانت البلد الذي عجز عن التفاهم مع «آي آر تي» رغم أن الحكومة المصرية عرضت أكثر من مرة دفع مبالغ مالية كبيرة.
إلا أن الشبكة ذات الحقوق الحصرية، رفضت تماماً أي تعويض مالي، فالسوق المصرية هي الأكبر على الإطلاق. ثم إن قبولها بثّ المباريات في التلفزيون المصري مجاناً سيؤدي إلى خسارتها المشتركين الحاليين، أولئك الذين دفعوا مقابل الخدمة على أساس أنها خدمة حصرية. استسلم المفاوضون المصريون، فازدهرت مكاسب المقاهي: بعضها أضاف تسعيرة خاصة إلى المشروبات مقابل مشاهدة المباراة، وبعضها الآخر عرض المباريات مجاناً، مكتفياً بالرواج الذي تحققه له. كلّ ذلك كان قبل أن يكتشف عبقريّ ما تلك الثغرة الخطيرة في عقد البث الحصري. ذلك أن العقد يتيح للشبكة بث المباريات للمنطقة العربية باللغتين العربية والإنكليزية، ولم يتضمن أي لغات أخرى كالفرنسية مثلاً. هكذا وبمبلغ زهيد (نصف مليون يورو)، تعاقد التلفزيون المصري مع شبكة «دارمون» الفرنسية ـــــ وهي المحتكرة للبطولة وفقاً لتعاقدها مع الاتحاد الأفريقي لكرة القدم ـــــ ليبثّ البطولة باللغة الفرنسية... لم يحدث هذا للمرة الأولى أثناء البطولة الحالية، بل في بطولة 2004. أما في دورة عام 2006، فكانت مصر تستضيف المباريات على أرضها، وهو ما أتاح لها البثّ أرضياً. ثم تكرر البث بالفرنسية في البطولة الحالية مع تغيّر جوهري، إذ حصلت الإذاعة المصرية «غوول إف إم» على حقّ بث المباريات في الراديو. وهكذا، أصبح المصريون يخفضون صوت التلفزيون ويرفعون صوت الراديو و«كلّه تمام»، خصوصاً أنه لحسن الحظ، ليس هناك فارق زمني بين بثّ الصورة وبثّ الصوت، الأمر الذي وفّر مشاهدة مريحة. وللمرة الأولى، لا يهتمّ معلقو الراديو بالوصف التفصيلي أكثر من اللازم، على غرار «على يمينك الفريق الفلاني يرتدي اللون العلاني»... ذلك أنهم يعرفون أن المستمع يشاهد كل شيء عبر شاشة التلفاز، لدرجة أنك تسمع معلّق الراديو يتحدّث عن لقطات إعادة الأهداف!
لكن قضية التعاقد على بثّ المباريات تتطور يوماً بعد يوم. إذ أثبتت التجربة أن الاحتكار الشامل للشبكة السعودية لا يمكن أن يتكرر في العالم المتقدّم. ذلك العالم الرأسمالي يوفّر لمواطنيه الخدمات على قدر إمكاناتهم، بدءاً من ملخصات البطولات، مروراً بالمباريات الكاملة، وصولاً إلى استضافة أفضل المحللين والخبراء والنجوم... أما في العالم العربي، فإما أن تدفع اشتراك سنة كاملة دفعة واحدة، وإلا تُحرم من المشاهدة تماماً، وليس لديك أي «أوبشن» آخر.
غير أن ذلك الوضع في طريقه إلى النهاية كما يرى مراقبون، فتطوّر تقنيات الاتصالات والإنترنت، أتاح للكثيرين أساليب لكسر شفرات البث، والفرجة من خلال شبكة المعلومات أو الوصلات... كذلك تردد أن الاتحاد الافريقي لكرة القدم، قد يعود إلى سابق عهده بإلغاء البثّ الاحتكاري، مثلما هي الحال في آسيا. ويتحدث بعضهم عن احتمال اقتحام تكتلات إعلامية آخذة في التكوين لسوق البث. وبات من المؤكد أن الرياضة التي وُجدت للجميع، لن تستمرّ طويلاً في قبضة المحتكر.
عدوّ الشعب!

كثيراً ما التقى عالما الرياضة والفن، من خلال اهتمام فنانين بالرياضة وتشجيعهم لأندية معينة، أو من خلال قيام بعض الرياضيين بأداء أدوار البطولة في أفلام سينمائية. لكن نادراً ما اجتمع الفن والرياضة عند رجل واحد كما حدث مع الشيخ صالح كامل، صاحب شبكة art.
الشيخ كامل الذي تزوّج فنانة مصرية شهيرة هي صفاء أبو السعود، ظلّ لسنوات محل غضب قطاع كبير من المصريين. فالرجل الذي ابتدع شراء أصول «النيغاتيف» لحوالى ربع الأفلام المصرية، وبثّها من خلال شبكته حصرياً، عاد ليمسك المصريين من محل الوجع. وذلك، عندما صادر حقّهم في الفرجة على «الكورة»، وهي أكبر بهجة في حياتهم. وكان إصرار كامل كبيراً على احتكار بثّ مباريات الفرق المصرية تحديداً، وعدم التفاهم في هذا الخصوص كما فعل مع بلدان عربية أخرى. ووصل به الأمر في تصفيات كأس العالم إلى شراء حقّ بثّ مباريات مصر فقط من دون بقية مباريات مجموعتها! ما أسهم في تكوين قناعة لدى كثير من المصريين بأن الشيخ يتعمّد إغاظتهم، على رغم أن كامل أعرب كثيراً، من خلال تصريحاته وتصريحات صحافيين مؤيدين له، عن براءة نيّاته وانتماء تصرفاته إلى المنطق التجاري البحت، بوصفه مصر بالسوق الأكبر في المنطقة. أمّا بطولات الخليج والاتحاد الآسيوي، فهي تذاع مجّاناً، ولم يسعَ صالح كامل إلى احتكارها، فيمكن المصري إذاً أن يشاهد مباريات السعودية، لكونه يعجز عن مشاهدة مباريات المنتخب المصري.
ولم يكتف مسؤولو «راديو وتلفزيون العرب» بالتصريحات الصحافية، وقد رأى بعضهم أن جزءاً منها كان جارحاً للمصريين، إذ كاد يصفهم بـ «الحرامية» بسبب انتشار وصلات الـ«ساتلايت». بل «استشارت» الشبكة عدداً من الدعاة، الذين أفتوا بحرمانية تلك الوصلات. وشنّت حملة دعائية كبرى ضدّ هذا «السلوك»، وطالبت الحكومة المصرية بحماية حقوق الشبكة، ما دفع بالشرطة إلى مداهمة الكثير من مقدمي تلك الوصلات، من دون أن يحدّ ذلك من انتشارها.