حسين بن حمزة
في كتابه الجديد، يستعيد الناقد والإعلامي اللبناني فصولاً من تاريخ الحداثة العربية كما احتضنتها بيروت، انطلاقاً من تجارب مختلفة ومتكاملة: من عبد الحليم كركلا إلى رفيق شرف، مروراً بأمين الباشا وبول غيراغوسيان...

يبدو أن الكاتب والمسرحي عبيدو باشا في طريقه إلى التخصص في تأليف نوع معين من الكتب، يروي فيها سيَر شخصيات لبنانية. «كتاب الراوي» (1995) كان باكورته في هذا المجال، روى فيه سيَراً، ورسمَ بورتريهات لعدد ممن يمكن اعتبارهم صانعي التاريخ والثقافة والفن اللبناني. الكتاب الذي صدر حينها عن «دار التنوير» لم يُوزع بسبب إغلاق الدار نفسها، فأُعيد نشره في «دار الفارابي» (2004) بعنوان «11» وهو عدد شخصيات الكتاب. ثم أصدر باشا كتاب «أقول يا سادة» (2007)، وفيه استعادة سردية لتجربة مسرح «الحكواتي» التي بدأت أواخر السبعينيات من القرن الماضي.
داخل هذا السياق، يمكن إيجاد قاعدة لائقة لقراءة كتابه الجديد «هم» (دار الآداب). إذ لم يكن بلا إيحاء أن يطلق على نفسه صفة «الراوي» في كتابه الأول، وأن يكون عنوان «أقول يا سادة» من مستلزمات لغة الحكواتي. الفرق أن عبيدو باشا حكواتي من نوع حديث. فهو لا يروي سِيَراً تاريخية أو تراثية، بل سِيَراً معاصرة، وبعضها لا يزال على قيد الحياة.
يواصل باشا توغّله في عالم السيرة، محولاً ممارساته الكتابية فيه إلى جنس أدبي خاص به. كأنه يؤسس لفن مبتكر في الكتابة السردية. ثمة كتب كثيرة في السِّيَر والتراجم بالطبع. وثمة مؤلفون كثر يمارسون هذا الضرب من الكتابة والتأليف. ميزة عبيدو باشا تكمن في أنه لا يكتفي بإنجاز سير شخصياته. كتابة السيرة وحدها، بما هي محطات وتواريخ وأحداث، يمكن تلزيمها لموظفين يتقنون مهنة التسجيل والتصنيف ووضع البيبلوغرافيات. بالنسبة إلى عبيدو باشا، المحطات والتواريخ والإنجازات هي عظام السيرة. ما يكسوها ويضعها في شكلها المتكامل هو الكتابة أو الأسلوب الذي ستُكتب به. القصد أنّ السيرة لديه هي كتابة تخصّه مثلما تخصّ الشخصية التي يؤرخها ويُنجز سيرتها. وهذا يعني أن كتابه يطرح سؤالاً ضرورياً، وهو كيف نكتب السيرة؟
بحسب الكيفيات الأسلوبية والسردية التي يتّبعها في الكتاب، نلاحظ أن المؤلف لا يشتغل عند صاحب السيرة فقط، بل يشتغل عند نفسه أيضاً. بمعنى أن إنجازه للسيرة يتضمن، في الوقت نفسه، إنجازاً لنص أدبي. ورغم صعوبة فض الاشتباك بين ما هو محض سيرة وما هو محض نص... ينبغي التأكيد أن السيرة هي ملك صاحب السيرة، أما النص فهو للمؤلف. بعبارة أخرى، نحن أمام نص سردي مشترك بين الاثنين. الأول يصنعه بإنجازاته، والثاني يكتبه.
لعل هذا التمهيد يبدو طويلاً، لكنه ضروري ومستحق من أجل أن يُدرك القارئ أن ثمة طبقات عديدة للنص الذي يقرأه. هناك مقابلات وحوارات أساسية مع الشخصيات، وأخرى فرعية مع آخرين عايشوا أو تقاسموا التجربة مع تلك الشخصيات. ويعود باشا، حسب الحاجة، إلى الأرشيف والذاكرة. ويربط التجربة الذاتية بالحقبة الزمنية والثقافية التي حدثت فيها. يستعيد ما كُتب من انتقادات وإطراءات. يوزان بينها. يرجّح بعضها ويستبعد بعضها الآخر. وأحياناً يستعين برأيه شاهداً على التجربة وقارئاً وناقداً لها. إنّه «الراوي» الذي تسمح له المعطيات المختلفة بعرض وجهة نظر شبه شاملة عن تجربة كل شخصية من شخصياته. التأليف هنا له سلطته ونبرته وتقنياته.
يبدأ عبيدو باشا كتابه بفصل «العاصيان المنصوران وفيروز الرحباني». في العنوان ابتكار لغوي مردّه صعوبة الحديث عن منصور أو عاصي أو فيروز من دون استحضار فرادة وثراء وطليعية التجربة الرحبانية كلها. يشتغل عبيدو باشا على فكرة استمرار منصور الرحباني وغياب عاصي. لكن ذلك يستدعي ذكر ابنيه أسامة ومروان. ثم فيروز وخلافها مع عاصي. والخلاف يستدعي شهادة من زياد. والتجربة كلها تستدعي الحديث عن الفترة الزمنية، وصورة لبنان يومها. وفي غضون ذلك، يخلط عبيدو باشا بين السيرة بمعناها المباشر، والسيرة تجربةً متحققة بالشعر والتلحين والغناء والمسرح.
الأمر نفسه يسري على الشخصيات الأخرى في الكتاب. ستُمزج سِيَرهُم مع بيئاتها. وسيُضاف هذا المزيج إلى إنجازات هذه الشخصيات وأعمالها. ثم تُعاد كتابة كل ذلك في نص يتنقل بين التاريخ والتجربة والأفكار الذاتية. سيتتالى هؤلاء، ويحتل كلٌّ واحد منهم فصلاً في الكتاب: عبد الحليم كركلا، كامل مهنا، رفيق شرف، أمين الباشا، وجيه ناصر، بول غيراغوسيان، نصري شمس الدين وحليم جرداق. أربعة رسامين، وأربعة عاشوا تجاربهم غناء ومسرحاً، وواحد فقط هو الطبيب كامل مهنا قادم من تجربة فكرية وحزبية وسياسية.
الواقع أنّ الكتاب لا يشمل هؤلاء فقط. السِّيَر عادةً تختلط بسِيَر الآخرين. وهكذا ستحضر أسماء كثيرة، وأمكنة وأزمنة وتواريخ، في تجربة كل شخصية. بل إن بعض من يحضرون يليق بهم أن يحتلوا فصلاً في الكتاب أو في كتاب آخر من النوع نفسه. مع رفيق شرف، سيمر ذكر الـ«هورس شو» وستينيات بيروت وشارع الحمرا وشخصيات من تلك الفترة: أنسي الحاج، ميشال أبو جودة، أدونيس... ومع أمين الباشا، سيحضر الياس الديري وغسان ونادية تويني. ومع وجيه ناصر، سيُستدعى جورج أبيض وزكي طليمات ويعقوب الشدراوي. وفي صفحات أخرى ستمر أسماء وأحداث: حسن علاء الدين (شوشو) وجلال خوري... الحرب الأهلية، مهرجانات بعلبك. فرنسا وإيطاليا وإسبانيا... حيث تابع معظمهم دراسته وعاش فترات هناك، معرّضين هوياتهم وميولهم الذاتية والفنية (وسِيَرهم بطبيعة الحال) لمناخات مختلفة.
الكتاب مليء بالتفاصيل. السِّيَر الرئيسية تنتج سِيَراً أصغر... وهكذا.
لكن مهمة أخرى تنتظر القارئ، وهي أن عليه أن يرى هذه السِّيَر داخل زمنها اللبناني العام، بل ربما هي زمن لبنان بامتياز.