إعداد: باسم الحكيم
• وجوه وحكايات تتحدّى الغياب

الشاشة الصغيرة تحنّ إلى زمن الأبطال. ومثلها خشبة المسرح، وموجات الأثير. «الأخبار» تستعيد وجوهاً غابت بالأمس، وأخرى تسكن ذاكرتنا منذ زمن، مرادفاً للزمن السعيد: حليم الرومي، نبيه أبو الحسن، شوشو، فيلمون وهبي. ومعهم عماد فريد وعازار حبيب اللذان التحقا أخيراً بموكب الغياب... إنّهم رموز من جيل الروّاد والمؤسسين، صانعي العصر الذهبي للفن اللبناني






شوشو

هو العبقرية الوحيدة في المسرح اللبناني، على حدّ تعبير المخرج نزار ميقاتي... وصاحب الحاسة السادسة الذي يشتمّ رائحة النجاح والفشل قبل ولادة أعماله، كما يصفه المسرحي محمد كريّم... والمعلّم الذي لا يقهر، حسبما يشير إليه أحمد الزين. 32 عاماً مضت على رحيل حسن علاء الدين (شوشو)، ولم تغب صورته كمؤسس للمسرح اليومي مع شريكه نزار ميقاتي. فضلاً عن كونه وجهاً محبّباً في الدراما التلفزيونية التي ألّفها والد زوجته الكاتب الراحل محمد شامل. وقبل ذلك، شارك شاباً يافعاً بجملة يتيمة في برنامج إذاعي للمخرج محمد كريّم، ومنها دخل عالم النجوميّة.
اختار منذ بداياته طريقه الخاص، فرسم شخصيّات جديدة على المسرح، لعلّ أبرزها ذلك الرجل الذي ينطق بلسان طفل، ويرتدي ثياب طفل. وعرف حسن، بدعم من محمد شامل، أن يخلق شخصيّة تجذب الجمهور حيناً، وتواجه انتقادات حادة أحياناً. لم يطل العمر بشوشو (رحل في 2 تشرين الثاني/نوفبر 1975، مع بداية الحرب الأهلية). مع ذلك، قدّم خلال ما يقارب 22 عاماً، مسيرة حافلة بالأعمال المسرحيّة، بدأها منذ أيّام الدراسة يوم كان يجسّد الأدوار التمثيلية أمام رفاقه، وفي سهرات أصدقاء والده في أحد مقاهي ساحة رياض الصلح. ثم أتبعها بتجربة على مسرح فاروق، قبل أن تنطلق مسيرة الاحتراف الخجول عام 1953 بمسرحيّة «عنتر بالجنديّة» على خشبة مسرح الخليّة السعوديّة في بيروت مع مجموعة من الهواة. إلّا أن اسمه لم يكتب بالحروف الذهبيّة، إلّا في المسرحيّات التي حملت توقيع المسرح الوطني. وكانت باكورتها «شوشو بك في صوفر» التي عرضت للمرّة الأولى في 11 ت2 (نوفمبر) 1965. وعندما وقع الخلاف بين شوشو وميقاتي بداية السبعينيّات، تناوب على إخراج مسرحيّاته مخرجون عديدون منهم محمّد كريّم الذي حاول التوفيق بين الصديقين المتخاصمين. وحين فشل أخرج له أربع مسرحيّات هي «فرقت نمرة»، «واو سين»، و«وراء البرافان»، و«طربوش بالقاووش». لم يكتف صاحب «آخ يا بلدنا» بمخاطبة الكبار، فغازل الصغار أيضاً على خشبة المسرح، وغنى لهم مجموعة من الأعمال، ما زالت تتردد حتى اليوم، بينها «نانا الحلوة نانا» و«ألف باء بوباية». خاطفاً كان مرور شوشو في هذه الدنيا، لكن 36 عاماً بدت كافية ليثبت أنه ممثلٌ استثنائي، وأحد أعمدة الكوميديا اللبنانية.





نبيه أبو الحسن

مرّ زمن على رحيله (أربعة عشر عاماً)، وما زالت صورة ذلك «الأخوت» حاضرة في الأذهان. يقف هناك على المسرح، يحيّي الجمهور بسخريته المحببة، قبل أن تدخل والدته أم حسن (الراحلة علياء نمري)، ليشتعل حوار لا تغيب عنه النكتة الطريفة المغلّفة بقالب من كوميديا سوداء، لطالما رفعها شعاراً لمسرحه.
بدأ نبيه أبو الحسن (1934) حياته المهنية أستاذاً للرياضة في إحدى مدارس عاليه ثم في طرابلس. وفيما كان يراسل إحدى الجامعات المصرية، قدّم على مسرح الضيعة بعض الاسكتشات بمشاركة فرقة هواة من أبناء القرية. لم يخطط للاحتراف، فبين التدريس والعمل في أحد مصارف بيروت، لم يجد وقتاً لدخول الفن من بابه الواسع. الصدفة وحدها قادته إلى استديوات الإذاعة اللبنانيّة إثر انصرافه إلى الصحافة المكتوبة. يومها، اكتفى بأدوار صغيرة، قبل أن يشارك في إحدى مسرحيات فرقة منير أبو دبس، ثم مع شكيب خوري على مسرح الجامعة الأميركيّة، فمسرحيّة «الفرمان» لناديا تويني، وتقاسم بطولتها مع شوشو. لكن اللقاء الفعلي مع شوشو، لم يبدأ إلا مع مسرحية «اللعب عالحبلين». ثم قدّم أبو الحسن مع ريمون جبارة وبيرج فازليان مسرحيّة «لعبة الختيار» قبل أن يؤدي شخصيته الشهيرة في مسرحيّة «جحا في القرى الأماميّة» حيث أدى للمرّة الأولى دور «الأخوت». لهجته الشوفية التي استقاها من مسقط رأسه بتخنيه، أوحت له بتلك الشخصية التي حققت نجاحاً مدوياً. وإذا به يقدمها في مسرحيات عدة، منها «نابليون وأخوت شناي» و«الشاطر حسن» (إخراج بيرج فازليان) و«أخوت شناي في الجبهة» (إخراج ريمون جبارة). كما جسدها في التلفزيون مع الكاتب أنطوان غندور في مسلسل «أخوت شناي» وفي مسلسل «كانت إيام» للمخرج باسم نصر.
هكذا استمرت رحلته تصاعديّة، إلى حين أشعلت «أخوت شانيه ونابليون» أول أعمال مسرحه الخاص، الجمهور في عرضها الأول. ومعها، غدا مسرحه مقصداً للجميع: خاطب ذلك الأخوت الشعب بجميع طبقاته وأمزجته، كما نجح في انتزاع ضحكات الأدباء والمثقفين الذين وجدوا في مسرحه الشعبي، متنفّساً حقيقياً للمواطن وهمومه. القدر الذي ابتسم طويلاً لنبيه أبو الحسن، لم يمهله تقديم آخر مسرحياته «أخوت السلام» فتوفي في حادث سير غامض على طريق أدونيس (شمال بيروت)، في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1993، ليقدم المسرحية من بعده شقيقه محمود.





عماد فريد

أكثر ما كان يُسعد عماد فريد عند لقائه بأحد المعجبين، أن يستمع إلى رأيه بالشخصيات التي يقدمها على الشاشة والمسرح. ورغم أنه أمضى أكثر من أربعة عقود في دنيا الفن، كان يحضّر لكل دور كأنه الأول في مشواره.
ولد راجح راجح (وهو اسمه الحقيقي) في بلدة مرجعيون عام 1930. ابن الإذاعة الذي كان يرى الميكروفون صديقاً وخصماً في آن، نال جائزة أجمل صوت إذاعي عام 1971. وأحد أبرز مؤسسي الدراما التلفزيونية المحلية، قدم ما يوازي 1500 ساعة تلفزيونية في مسيرته الطويلة. كانت البداية مع أديب حداد (أبو ملحم) حين أسند إليه دور ملحم. ثم تتالت الأدوار وتنوّعت بين الاجتماعي والتاريخي، لعلّ أشهرها: «مذكرات ممرضة»، و«النهر»، «حتى نلتقي»، «الجوّال»، «الوادي»، «الوادي الكبير»، «زنوبيا ملكة تدمر» مع نضال الأشقر، «قطار عام 2000»، «مرّت الأيام»، «شجرة الدر» و«دائرة الضوء». إضافة إلى مشاركته في «رئيس الجمهورية»، «لا أمس بعد اليوم» و«قريش»، فضلاً عن مسلسل «رماد وملح» للشاعر جوزيف حرب قبل سنوات قليلة.
لم يكن حضوره في السينما ساطعاً، كما في التلفزيون والإذاعة. مع ذلك، دعّم تجربته السينمائية عبر دراسة كتابة السيناريو في باريس، وانتسابه إلى المعهد السينمائي في مصر، وحلوله في المرتبة الثالثة بين طلّابه. من أفلامه: «معرض الحب» للمخرج عاطف سالم، «قلبها نار» للمخرج أحمد الدسوقي، «غارو» للمخرج غاري غارابيديان، و«الممر الأخير» ليوسف شرف الدين. كما شارك عام 2005، في فيلم «النمر والثلج» للمخرج الإيطالي روبرتو بينيني. غيّب الموت عميد الممثلين اللبنانيين قبل أشهر، إذ وافته المنيّة في 13 أيلول (سبتمبر) المنصرم. وقد قلّده رئيس الجمهورية وسام الاستحقاق الفضي في يوم تشييع الجثمان.





فيلمون وهبي

من منّا لا يعرف «يا طير الطاير» و«دخل عيونك حاكينا» لصباح، و«حلوي وكذابي» و«بترحلك مشوار» لوديع الصافي، و«بليل وشتي» و«إسوارة العروس» و«فايق يا هوى» لفيروز، و«حبيبي نجار» لشريفة فاضل؟ هذه الأغنيات لحنها فيلمون وهبي (1916)، ابن كفرشيما التي حمل أحد شوارعها اسمه بعد رحيله في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1985. عشق الموسيقى منذ طفولته، فسرقه عشقه هذا من الدراسة. قبل الاحتراف، عمل مع شقيقه في المقاولات. وكما لم يصمد في دراسته، لم يحتمل العمل بعيداً من الأجواء الفنيّة، فترك كل شيء وتفرّغ للتلحين والتمثيل. كان ملحناً بالفطرة، لم يدرس الموسيقى أو قراءة النوتة. إلا أن ذلك لم يمنع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب من أن يستوحي لحن أغنيته الشهيرة «الدنيا غنوة» من أغنية فيلمون «يا با قلبي». كان الوحيد الذي تغني له فيروز لحناً واحداً على الأقل في مسرحياتها، كما برع في التمثيل على المسرح الرحباني إلى حدّ وُصف بـ«العمود الفقري» لهذا المسرح مع شخصية سبع. وكان عاصي يغازله بـ«فاكهة المسرحيّة اللذيذة»، فيما عدّته فيروز «سبع الأغنية وشيخ الملحنين». كوّن مع الشاعر عبد الجليل وهبي والمطربة وداد المعروفة يومذاك باسم بهية وهبي ثلاثيّاً، قدموا مجموعة كبيرة من الأغنيات. يصفه الناقد الموسيقي إلياس سحاب بالأب الشرعي للأغنية اللبنانية. وعند الإعلان عن تأميم قناة السويس عام 1956، كان فيلمون في مصر برفقة نجاح سلام وزوجها محمد سلمان الذي كتب على الفور أغنية «اليوم اليوم النصر» ولحنها فيلمون وغنتها نجاح. وهبي هو واحد من ثلاثة روّاد يُعتبرون فرسان الأغنية في لبنان: نقولا المني، مؤسّس الأغنية العاطفيّة الشعبيّة، وسامي الصيداوي رائد الأغنية الانتقاديّة ذات الطابع الاجتماعي، وفيلمون الذي كان الأغزر إنتاجاً بينهم. عمل في فلسطين حيث كانت إذاعتا القدس والشرق الأدنى منذ الأربعينيات، وعاش متنقلاً بين الإذاعتين وراديو الشرق في لبنان. وفيما كان حضوره محبباً في الأفلام اللبنانية والمصرية، برز أكثر في المسرح وتقديم الاسكتشات: «يعيش يعيش»، و«ناس من ورق» و«بيّاع الخواتم»، و«لولو»، و«ناطورة المفاتيح»، و«المحطّة»، و«سبع الناطور»، و«فيلا وأتوموبيل وست حلوة»... كما أصدر ألبوماً تضمّن مونولوغات فكاهية، بينها: «همبرغر»، «فيلمون أتى» و«البوسطجي».





حليم الرومي

أحد روّاد جيل المؤسّسين في الإذاعة اللبنانيّة. حليم الرومي ليس اسماً عابراً، يكفي أنه عرّف عاصي الرحباني بفيروز، بعدما وجد فيها موهبة استثنائية يوم كانت تغني في كورس الإذاعة. وقبل أن يجمع الوصل بين عاصي وفيروز، لحّن لها الرومي أغنيات طواها النسيان منها «يا حمام» ورافقها في غناء ديالوغ «عاشق الورد». هو ابن صور (مواليد 1915)، واسمه الأصلي حنا عوض البراضعي. أمّا اسمه الفني، فأطلقه عليه عام 1938، رائد المسرح العربي زكي طليمات. عند بلوغه الرابعة عشرة من عمره، قُبل في المعهد الموسيقي في حيفا، كأصغر طالب، بعدما لمس أساتذته ولعه بالموسيقى. أمّا بدايته، فكانت عبر أثير إذاعة الشرق الأدنى عام 1932، واشتهر يومها باسم المطرب المجهول.
في عام 1950، طلب منه فايز مكارم، المدير العام لوزارة الأنباء يومذاك، إعادة تنظيم القسم الموسيقي في الإذاعة. وسرعان ما تولّى مسؤولية الدائرة الموسيقية، ووضع أسساً صارمة لاختيار الأغنيات التي يسمح ببثّها. وقد منع مثلاً بثّ أغنية «عاللومة اللومة» لوديع الصافي، بعدما وجدها خارجة عن المألوف، لكنه عاد وسمح بإذاعتها، إثر نجاحها المنقطع النظير في الإذاعات العربية. واستمرّ موظفاً في الإذاعة حتى تموز (يوليو) عام 1978، وتوفي في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1983.
استقرّ في مطلع شبابه في مصر لدراسة الموسيقى في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، وحصل على شهادة الدبلوم في الموسيقى عام 1937، كما تعلّم تجويد القرآن. تغنّت بألحانه فايزة أحمد، ونور الهدى، وصباح، ووداد، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، وطبعاً ابنته ماجدة... كما غنت له سعاد محمد قصيدة «إرادة الحياة» لأبي القاسم الشابي، وهي الأغنية التي طلبت من رياض السنباطي إعادة تلحينها، إثر خلافها مع الرومي. كما لحّن قصيدة «أيها الفيصل» من شعر الأخطل الصغير، «أنا لياليك» لجورج جرداق، وتوّج أعماله مع أحمد شوقي بنشيد «العمال». لم تحفل مسيرته بالأفلام، لكنه شارك في بطولة «صلاح الدين الأيوبي» عام 1941، «أول الشهر» عام 1944 أمام صباح وحسين صدقي، والثالث «قمر 14» عام 1949 مع كاميليا ومحمود ذو الفقار. حليم الرومي لم يغب تماماً، فما زال حاضراً في نتاجات ابنته ماجدة التي تحيي بصوتها كل فترة، إحدى أغنياته.





تحية




عازار حبيب

انتظر عازار حبيب طويلاً هدوء الوضع السياسي ليستكمل نشاطاته، فجمّد تسجيل ألبومه الأخير «بدي حبك ليل نهار» الذي كتب كلماته إلياس ناصر. لكن القدر لم يمهل صاحب «ع جبين الليل»، وإذا بقلبه يسكت قبل 12 يوماً (16 ت2/ نوفمبر 2007) من عيد ميلاده الـ 62. هكذا، عاد إلى ضيعته الحوش في قضاء راشيا، بعدما طال غيابه عنها، كما تقول كلمات أغنيته «يا رايح ع ضيعتنا».
تأخر دخول عازار حبيب عالم الغناء حتى مطلع الثمانينيات. قبلها، اشترك في تأليف المسرحيات الغنائيّة وتلحينها منذ عام 1975، ومنها «موسم الطرابيش». صنف ملحّناً من الدرجة الأولى وفق تصنيفات الإذاعة اللبنانيّة في آخر أيّام عزّها، وشكّلت أغانيه ببساطة كلماتها وعذوبة ألحانها، حالةً خاصة، آخرها ألبوم «أحلى السيدات». لم يكتف حبيب بأن يكون مغنياً وملحناً ناجحاً، بل رسم بريشته وجوه فنانين لبنانين.