strong>بيار أبي صعب
• فدريكو غارسيا لوركا يعلن الولادة الرسميّة لـ«مسرح بابل»
بعد طول انتظار، يعود إلى جمهوره من بيروت، حيث تفتتح هذا المساء عروض «نساء السَّكسو... فون»، مع رفعت طربيه وجاهدة وهبه وعايدة صبرا... جراح العراق تلاحق جواد الأسدي، وترشح من نصّه التراجيدي الذي يحكي عن بيوت تحترق، ومدن تنهار، بالتواطؤ مع الشاعر الأندلسي القتيل صاحب «برناردا ألبا»

صمت مشبوه يخيّم على المكان. إنّه الهدوء الذي يسبق العاصفة. على جدران الباحة الخارجيّة كائنات جبر علوان، سامقة يستخفّها طرب شبقي فتتهادى وترقص. أو تقف وتجلس وتستلقي في وضعيّات تعبيريّة، تارةً ماجنة، وتارة أخرى تنضح حيرة وألماً. إنّها مستعارة من عالم فدريكو غارسيا لوركا... تماماً مثل “نساء السكسو... فون” اللواتي يقمن في جوار «بيت برناردا ألبا». نحن في «سينما مارينيان» التي أعاد جواد الأسدي تطويبها باسم بابله الضائعة؟ هنا يراهن اليوم المسرحي العراقي الذي أقفلت بغداد أبوابها في وجهه، على احياء الثقافة اللبنانيّة في قلب الدوّامة، واستعادة بعض أمجاد المسرح العربي، الضائعة ربّما إلى خير رجعة.
في الباحة الخارجيّة ننتظر لحضور احدى البروفات الأخيرة على «نساء السَّكسو... فون» مسرحيّة جواد الأسدي التي تعرض ابتداء من هذا المساء على «مسرح بابل». عشية الولادة الرسميّة لفضائه الثقافي، يبدو جواد هادئاً في مواجهة مشاكل تقنيّة طارئة، أو لدى الحديث عن مصاعبه الماديّة. السينوغرافيا أيضاً تحمل بصمات جبر علوان، بدءاً من تلك اللوحة التجريدية المستطيلة في خلفيّة المسرح. كالعادة، مسرحيّة جواد الأسدي الجديدة قائمة على خلق الحالات والمناخات، انطلاقاً من نصّ تراجيدي ينضح بالشعر، كلماته وصوره ورؤاه مغمسة بالمرارة والألم... والسخرية المبطّنة، تأخذك عنوة منذ المشهد الأوّل الذي يشرّع أبواب الغرائبيّة، قبل أن يحطّ ببطء على أرض الفجيعة.
وإذا كانت إدارة الممثل، من أهمّ أساسات عمارته المشهديّة، فإن العرض ينبع عنده من النصّ، ويصبّ فيه. هذا المسرحي العراقي هو مؤلف نصوصه كلّها، منذ «العائلة طوط» (إستيفان أوركيني، ١٩٨٣)، و«خيوط من فضّة» (١٩٩٥)... طبعاً هناك أعمال من تأليفه تماماً، مثل «المصطبة» (١٩٩٧) و«حمام بغدادي» (٢٠٠٥)... لكن مبضعه امتدّ إلى نصوص تشيخوف وشكسبير وجان جينيه وأوغست ستريندبرغ، لا اقتباساً بل صهراً وإعادة كتابة لتلائم رؤيته الاخراجيّة. ولا نعرف إن كان بوسعنا أن نستثني، من هذا التطاول، الإبداعي والإشكالي في آن، «رأس المملوك جابر» و«الاغتصاب» نصّيْ الراحل سعد الله ونوس اللذين قدّمهما على المسرح.
لا تبحثوا إذاً، عن نص لوركا “برناردا ألبا”. لم يبقَ منه سوى الإطار العام: بنات وخادمة، محاصرات في بيت مغلق المنافذ، تحت طغيان أم قاسية مستبدة، في حداد على زوجها. لكن القدر سيمرّ من هنا، على شكل رائحة رجل، فتهبّ رياح التمرّد، وتتدافع التمزقات والانهيارات والمآسي! نساء لوركا السبع لم يبق منهنّ سوى أربع هنا... أضيفت إليهنّ شخصيّة الجدّة التي يؤديها رفعت طربية بخفّة وانخطاف وحده يملك سرّهما. الأم برناردا (جاهدة وهبه قويّة ومفاجئة)، والخادمة لابونتيا (عايدة صبرا، هاذية ومذهلة)، والابنتان أديلا (إيفون الهاشم) ومجدولينا (نادين جمعة). وحدهنّ في دوّامة الأهواء والصراعات الخانقة، في بيت مقفل حتى الاختناق، ويختزن في الوقت نفسه أطياف العالم الخارجي وقوانينه الجائرة... وكوابيسه.
هذا كلّ ما بقي من «برناردا ألبا» في مسرحيّة «نساء السَكسو... فون»: حالات ورموز، إحالات ومناخات جماليّة وحسيّة. يبني الأسدي إطاراً مؤسلباً، قادراً على احتضان لعبة «القسوة» التي يبرع بها. هناك أيضاً عبَق اسباني في الحوارات والأغنيات والإيقاعات، إضافة إلى الأسماء الإسبانيّة التي أبقى عليها المخرج نوعاً من الطوطم التغريبي ربّما.
الباقي كلّه من صنيع الأسدي الذي استدرج صاحبَ «عرس الدمّ» إلى وادي الدموع العربيّة. اتخذه «شريكاً» ومحاوراً، هو الذي صوّر بدقّة وشاعريّة كل العنف والقسوة الكامنين في مجتمعات ريفيّة، وكاثوليكيّة، وبطريركيّة، ومحافظة، وتسحقها التقاليد. لا شكّ في أن الشاعر اللواطي الشيوعي الذي تواطأت عائلته المحافظة مع فاشيّة فرانكو على اغتياله (١٨٩٨ ـــــ ١٩٣٦)، يحوم في كواليس «مسرح بابل». لقد صار عراقيّاً ولبنانيّاً وعربيّاً.
اللوعة نفسها تسكن شخصيات «نساء السكسو... فون» والصراعات نفسها تحرّكهم. لكنّ الأسدي أقحم رؤياه التراجيديّة، من خلال نصّ يتحدّث عن مدن محروقة تفوح منها رائحة الموت، وعن «آلاف الثيران المسلّحين يجرّون البلدة من قميصها...». تتحدث برناردا اللبنانيّة/ العراقيّة عن «بيوت مهدّمة... ومرايا مهشّمة»، تقول: «ليس من هواء نظيف يطهّر الحدائق، ولا مطر يغسل الحقول». تخبرنا أن «الغجر أحرقوا عرباتهم في الحقول ومضوا الى بلدان نائية». هذا هو جواد الأسدي، شاعر تراجيدي حين ننتظر منه أن يكون مخرجاً. تتواتر العامية اللبنانيّة (قروية ريفيّة مع الجدّة/ رفعت طربيه) والفصحى الأدبيّة التي تتمسّك بأهداب التراجيديا. يأخذنا التضخيم والأسلبة، إلى عوالم مسرحيّة مختلفة عبَرَها هذا المسرحي. كلّما دخل مناخاًَ مسرحياً، حمله معه في اعماله اللاحقة. هكذا بدت «تقاسيم على العنبر» (١٩٩٤) التشيخوفيّة ذات نبرة شكسبيريّة. وهكذا نقع في المشهد الافتتاحي لـ«نساء السكسو...فون» على بصمات جان جينيه، وعالمه القائم على الطقوسيّة المتصنّعة، والمَسْرَحة والتضخيم. «جدّة» طربيه توحي لنا بالمدام في «الخادمتين»، وجاهدة وهبه مطربة الأوبرا الثكلى والمكبوتة والطاغية، بلباسها الكرنفالي، غير بعيدة عن شخصيات «البلكون» (مدام إيرما تارةً، والكاردينال طوراً)...
البروفة تتواصل، وتعلو حدّة التوتّر. رفعت تقدّم قبل أن تهبّ الرياح، وجاهدة تبحث عن الطبقة الشعوريّة المناسبة... وعايدة تقف في الظلام لأن البروجكتور اللعين معطّل. والإضاءة انطلقت متأخرة، والشريط الصوتي أقوى من اللزوم... تلفتنا طريقة استعمال الغناء والموسيقى (تحمل توقيع رعد خلف)، من إنشاد وأوبرا وفلامنكو وتراتيل شبه كنسيّة. هذه العناصر موظّفة بذكاء وديناميّة عضويّة في السياق الاحتفالي، وهو ما يعطي زخماً للأداء الانفعالي الذي يتوسّله المخرج لمحاصرة المشاهد والاعتداء عليه. في المشهد الأوّل مثلاً، نجد أنفسنا أمام مزاوجة مدهشة بين الفلامنكو والتعزية الشيعيّة...
فلامنكو كربلائي؟ هذا الفنّان لم يشف بتاتاً من جرح العراق النازف في وجدانه. صار مثل بنات برناردا معتقلاً في دائرة ضيّقة لا تتسع لأحلامه، وفي الخارج طيف الوطن المشتهى يلفّه دخان الحرائق. فهم هذا العراقيّ التائه أن أحداً لا يعود في الواقع إلى إيثاكا. راح يبحث عن امتداد لجراحه فوق فوهة بركان أخرس اسمه بيروت. Stop! انتهت البروفة، وما زالت صالة مارينيان ترجّع صوت برناردا التي تنشد مراثي الأزمنة الآتية.

«نساء السَكسو... فون» ـــــ ابتداء من ٦ ك١/ ديسمبر، أيام الخميس والجمعة والسبت والأحد، الثامنة والنصف مساء ـــــ «مسرح بابل»، بيروت: 01,744034