strong> هلا بجاني *
«حرية الصحافة» عنوان نقاش أزليّ يكاد يمتدّ على رقعة التاريخ المعاصر للإعلام العربي. ولا شكّ في أنّ الصحافيين اللبنانيين دفعوا، على امتداد العقود الماضية، ثمناً باهظاً للدفاع عن تلك الحريّة، كما تذكّرنا جريدة «النهار» إذ تنظم في الذكرى الثانية لاستشهاد جبران تويني، مؤتمراً عن «حريّة الصحافة في العالم العربي»، بالاشتراك مع «الاتحاد العالمي للصحف».
وحديث الـ«حريّة» يأخذنا إلى موضوع شائك، هو استقلاليّة المؤسسة الإعلاميّة نفسها، وما تتيحه تلك الاستقلاليّة (الماليّة أساساً)، من موضوعيّة وتجرّد وأمانة مهنيّة، وحريّة في النقد والكشف والتعبير عن مختلف المواقف والأفكار مهما كانت متصادمة مع نظام القيم الاقتصاديّة والسياسيّة القائمة... تلك المتحكّمة، في المصاف الأخير، بوسائل الإنتاج والتعبير والتربية والإعلام. ولا شكّ في أنّ الاستقلاليّة الماليّة هي الطريق إلى الحريّة، تمرّ إذاً بواردات الصحيفة وانتشارها.
المعروف أنّ الصحافة المكتوبة التي تهمّنا هنا بشكل خاص، تواجه اليوم في لبنان والعالم تحديات كبيرة، يمكن تلخيصها في انخفاض عدد قرائها سنوياً بنسب تتراوح بين 5 و10 في المئة. وهذا الانخفاض، يوازيه طبعاً انخفاض في الواردات الإعلانية. لكن، اذا كانت المجموعات الاعلامية الدولية، قد نجحت غالباً في الحفاظ على نسبة ارباح تقارب الـ15 في المئة، فإن الصحف اللبنانية، منذ أكثر من 10 سنوات، تواجه صعوبات مالية جسيمة تنقذها منها فقط الاموال السياسية أو التجارية المشروطة.
منذ أكثر من أربعين عاماً، ومع ظهور التلفزيون، وأخيراً الانترنت ووسائل الاعلام البديلة، يتحدث بعض الخبراء العالميين، عن الانقراض الوشيك للصحف المطبوعة التي لا تزال، رغم الصعوبات، على قيد الحياة. لكنّها تبحث الآن، بجدية أكبر، عن سبل استمرارها. ويمكننا القول إن الغرب رسم سياسات واضحة لهذه السبل، عبر دراسات جدّية ومتكاملة ـــــ أجرتها الصحف نفسها وخصوصاً المؤسسات الدولية المهنية ـــــ لمعرفة طبيعة السوق وحجمها وحاجاتها.
أما قطاع الصحافة المكتوبة في لبنان، شأنه في ذلك شأن الكثير من القطاعات، فما زالت معرفته بالسوق بدائية ومستخفاً بها. كذلك الأرقام تعوم في مناخ من الضبابية، بل من التعتيم المتعمّد غالباً. يجب أن نسلّم أولاً بأنّ الجريدة سلعة ذات خصوصيات تجعل التحدّي صعباً. إنّها سلعة، تنتج كل يوم، من أول كلمة الى آخر صورة، من دون أي تراكم. سلعة تطال نسبة ضئيلة جداً من المواطنين. ينتهي تاريخ صلاحيتها في أول ساعات بعد الظهر. يُقرأ في أفضل الحالات 20 في المئة من مضمونها. ينتجها يومياً ما لا يقل عن مئة صحافي، ثم تطبع وتوزع بكلفة عالية للغاية، تتضمن سعر الورق والمحروقات. لا يتعدى مردود بيعها 35 في المئة من ميزانيتها، وتبقى رهن السوق الإعلاني الذي يتشتت ويتوجه أكثر فأكثر إلى وسائل الإعلام البديلة.
نعلم جميعاً أنّ القارئ أصبح مستهلكاً متطلباً، وبات يتمتّع بخيارات كثيرة ومتنوّعة. هذا القارئ ما زال يشتري الصحيفة الورقية، لكنّه في الوقت عينه، يتجوّل أكثر فأكثر في العالم الافتراضي، عبر وسائل إعلامية عدة توافرت له مجاناً على شبكة الانترنت. ويجمع العارفون بطبيعة سوق الإعلام في لبنان، على تقدير العدد الإجمالي لـ«زبائن» الصحف بـ 85 ألف قارئ محتمل، أي نسبة تقل عن 0،1 في المئة من السوق الإجمالي، بينما تبيع صحيفة إسرائيلية واحدة مثل «يديعوت أحرونوت» 300,000 عدد يومياً، في مجتمع متشابه مع لبنان في الحجم ودرجة التسيّس. ما أسباب هذا الأمر الواقع؟ وهل من سبل لتحسينه؟
الصحف اللبنانية لا تزال في حالة إنكار تام لتدهور وضعها. فهي ترمي بوجه الرأي العام أرقاماً مضخمة في ما يتعلّق بحجم الطبع والمبيع والمرتجع، في غياب تام للجنة تدقيق حيادية، مثلما هي الحال في معظم البلدان الغربية. إذا لم نجمع، بوصفنا مهنيين معنيين بـ«صناعة» الصحافة على أنّنا نواجه أزمة، فكيف يمكننا أن ندرس أسبابها، ومن ثم أن نجد سبلاً لعلاجها؟ وفي ظلّ هذا الوضع، ليس أمام الصحيفة سوى أن تسيطر على جميع نقاط الإنتاج والتوزيع، كي لا يتمكّن أحد من تسريب الأرقام الفعلية، وهو ما سيؤثر حتماً في وضعها الإعلاني. لذا تستمر أبرز الصحف اللبنانية في تحمّل أعباء مراكز ذات كلفة عالية، منها الطباعة والتوزيع... فيما أجمعت الصحف الغربية على التخلي عنها، أو لجأت إلى التشارك في تحمل تلك الأعباء بين عناوين ومطبوعات مختلفة.
وقد آن الأوان أن تفوّض الصحف اللبنانية منظمات مستقلّة، إجراء دراسات نوعية وكمّية جديّة، موضوعية وغير منحازة. وأن تحرص على عدم تدخّل أي وكيل اعلانات، له مصلحة مباشرة بإبراز هذه الوسيلة أو تلك. في ضوء الأرقام العلمية الثابتة، يمكن أن تفرض الصحف أسعاراً جديدة للإعلانات، مثلما هي الحال في الصحف الغربية اليوم. كذلك آن الأوان أن تعزّز الصحف اللبنانية علاقاتها مع المنظمات المهنية الدولية الـIFRA أو الاتحاد العالمي للصحف، وأن تفسح في المجال أمام مهارات ادارية حديثة تخوّلها احتلال موقع الريادة في الأسواق العربيّة.
* المديرة العامة لشركة «أخبار بيروت ش. م. ل» صاحبة جريدة «الأخبار»

«مؤتمر حريّة الصحافة في العالم العربي» ـــ الأحد والاثنين «فندق مونرو» ـــ بيروت