من موريتانيا إلى فلسطين، يأخذنا «مهرجان أيام بيروت السينمائية» إلى مناطق جغرافية وسينمائية مختلفة، يتجسد عبرها الواقع العربي المتنازع بين السوريالية والمأساة. المحطة الاستثنائية الأولى كانت مع الفيلم الافتتاحي «تيمبكتو» لعبد الرحمن سيساكو الذي يتناول احتلال الإسلاميين المتطرفين من جماعة أنصار الدين لمالي عام 2012.
يبدأ الشريط بعملية إعدام جماعية للتماثيل الأفريقية المصفوفة جنباً إلى جنب. تنهال طلقات الرصاص من الإسلاميين حتى يتأكدوا من سقوطها أو موتها بالكامل. المشهد يعيد إلى الذهن فيلم كريس ماركر وآلان رينيه «التماثيل تموت أيضاً» (1953) حيث يبدأ الفيلم بعبارة: «حين يموت البشر، يدخلون التاريخ، لكن حين تموت التماثيل، تدخل في الفن». المفارقة هنا: كيف تقتل جماداً وما هو ميت أصلاً؟ لكن هذه التماثيل هي أخطر من البشر، ولا بد من أنهم يدركون ذلك جيداً، من هنا المحاولة العبثية لاغتيالها. ما يعيش داخل هذه التماثيل هو الخيال، الوهم الذي يستحيل قتله لأنه يعيش خارج المادة والزمن، ما يجعلها تقترب من فكرة الخلود أو الله الذي هو من يريدون قتله وأخذ مكانه. بحس من السخرية والطرافة، يصور لنا المخرج آلية عمل هذا التنظيم السوريالي، إلى درجة يبدو كأنّه محض خيال. مجموعة من الأشخاص جاؤوا من مختلف البلدان، كل يتكلم بلغة مختلفة، لا يفهمون على بعضهم، ولا لغة الشعب الذي يريدون حكمه. الشيء الوحيد الذي يعرفونه أنهم أتوا «للجهاد» من دون أن يتفقوا حتى حول أسبابه. مثلاً، في أحد المشاهد، نرى أحد الجهاديين وهو مغني راب سابق، يحاول أن يفسر في مقطع فيديو مصوّر سبب اعتزاله الغناء لأن الراب من الشيطان، فيبدو كتلميذ يردد ما حفظه فيما يحثه رئيسه على أن يبدو مقنعاً. حين يفشل، يسأله رئيسه ما إذا كان مقتنعاً بما يقوله، فيجيبه بالنفي. المزج بين الطرافة والمأساة هي لعبة المخرج الأساسية. يسخر بذكاء من آلية عمل هؤلاء الجهاديين المزعومين إلى درجة يبدون شخصيات كرتونية. نراهم مثلاً يتنصتون على جدران البيوت، باحثين عن مصدر الموسيقى أو يراقبون بخشية الحمار الذي يتنزه وحده بحرية بعد فرض حظر التجول. أما سكان تيمبكتو، فيسخرون من حماقة هذا التنظيم، ويحاولون الاحتيال عليه أو يتصدون له عبر استخدام الخيال. نراهم يلعبون كرة القدم متخيلين كرة وهمية بعد قبض الإسلاميين على كرة القدم الشاردة، «الشيطان المدور» الذي وجدوه في أحد الأزقة في واحد من المشاهد الرائعة في الفيلم. من جهة أخرى، يتجادل الإسلاميون في ما بينهم حول نجوم كرة القدم. يصور المخرج حالات التناقض التي يعيشونها، كما في حالة الجهادي الذي يرقص الباليه خفيةً في بيت الساحرة التي تتجول وحدها بحرية مكشوفة الرأس، وتجر ذيل ثوبها الطويل، وتشتم المسلحين الذين يخافونها، فهي وحدها الأكثر جنوناً منهم.

يحاول باسم فياض شرح
أسباب قلقه المزمن المرتبط بطفولته، وبذاكرة الحرب

في الإجمال، تبدو المقاومة الأساسية التي يمارسها سكان تيمبكتو ضد الجهاديين عدم أخذهم على محمل الجدل، فيرفضون الجدال أو النقاش معهم حتى تحت تهديد الموت والتعذيب.
وإلى حد ما، يبدو السكان كالمشاهد غير مصدقين للفظاعة التي قد تتولد من فكرة تبدو بهذه الهشاشة، كأنما لعبة فيديو استحالت واقعاً. وهذا ما يجعل مشاهد القتل والتعذيب أكثر قسوة، فنرى أشخاصاً يقتلون وهم مذهولون غير مصدقين فكرة موتهم. بخلاف ذلك، تتمتع اللغة السينمائية للشريط بجمالية شاعرية مذهلة، بخاصة في تصويرها للصحراء، ولعبة الضوء والظل. تتجسد هذه الشاعرية حتى في المشاهد العنيفة والقاسية كما مشهد مقتل الثور الذي ينجح المخرج في أنسنته أو لدى رجم الزانيين بحسب الجهاديين بالحجارة بعد ردمهما في الرمل، بحيث لا يبرز منها إلا رأساهما اللذان ينظران إلينا في جمالية مبكية. أما «عيون الحرامية» لنجوى نجار، فيستند إلى قصة الفلسطيني ثائر حماد الذي نفذ «عملية عيون الحرامية» عام 2002 وقتل فيها 11 جندياً صهيونياً عند حاجز إسرائيلي في وادي عيون الحرامية شمال رام الله.
لكن المخرجة الفلسطينية تختار أن تبدأ قصتها بعد عشر سنوات من الحادثة اثر خروج البطل طارق (الممثل المصري خالد أبو النجا) من السجن، مصورة رحلة بحثه عن ابنته نور التي أودعت دار الأيتام بعد موت زوجته. يعود طارق إلى نابلس ليبحث عن نور ويحصل على عمل في تصليح أنابيب الماء عند رجل يدعى عادل في انتظار العثور على ابنته التي تبنتها امرأة مجهولة كما قيل له. أثناء ذلك، يتعرف إلى الطفلة المتمردة والشرسة «ملك» ابنة «ليلا» (المغنية الجزائرية سعاد ماسي) المتبناة، فيكتشف لاحقاً أنها ابنته. انطلاقاً من حميمية القصة المتناولة عن أب يبحث عن ابنته، تستعرض المخرجة أوجهاً عدة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ليس فقط القمع اليومي الذي يمارسه الاحتلال، بل أيضاً تبعاته كتشتت العائلة وضياع الهوية، فحتى الابنة لا تتعرف إلى أبيها.
أما طارق الذي نكتشف لاحقاً أنه البطل المجهول الذي نفذ العملية ضد الحاجز الإسرائيلي قبل عشر سنوات، فمتنازع بين ضرورة المقاومة التي يؤمن بها وحبه لابنته، إلا أن انخراطه في المقاومة يتأتى من إيمانه بأن لا مستقبل ينتظر طفلته إن لم يسع لتغيير الحاضر. بالإضافة إلى مفهوم العمالة، يسلّط الفيلم الضوء على العدو الداخلي كما الخارجي على غرار «عمر» لهاني أبو أسعد، ما يعكس الإجماع على وجهة نظر مشتركة تسعى لتقديم رؤية نقدية أكثر تفصيلية عن الواقع الفلسطيني. في سردها، تعتمد المخرجة أسلوباً قد يقترن بالوثاقي يتجسد في عفوية الحوارات المتناولة، ولو أنها متفاوتة من حيث المستوى، فتبدو أحياناً باهتة أو مكررة بينما تتسم بالحنكة والطرافة في أماكن أخرى. ويستمر مهرجان «أيام بيروت» في الأيام المقبلة، ليعرض مجموعة من الأفلام اللبنانية أولها وثائقي «يوميات كلب طائر» (19/3).
هنا، يحاول باسم فياض أن يشرح أسباب قلقه المزمن، المرتبط بطفولته، وبذاكرة الحرب وبعلاقته المتأزمة مع مدينة بيروت التي يهرب منها وإليها. يسرد المخرج مقاطع من مذكراته التي يقسم عبرها الفيلم إلى فصول. بالتزامن معها، يصوّر تفاصيل الحياة اليومية لأفراد عائلته، وأحاديثه معهم، فيبحث عبرها عن مصدر هذا القلق المزمن الذي لا يفارقه. ويتشابه الفيلم في حبكته مع عدد من الأفلام اللبنانية الوثائقية التي صدرت أخيراً بحيث ينطلق عبرها المخرج من سيرته العائلية ليسرد تاريخ الحرب اللبنانية أو يغوص في رحلة الاكتشاف الذاتي. لكن اللافت في الشريط هو العلاقة الطريفة التي تجمع المخرج بالكلب «زين» الخجول والجبان الذي يخاف العالم الخارجي ويرفض الخروج من المنزل. بطبعه القلق، يشبه «زين» شخصية المخرج كما يفسر.
لعلّ إحدى أجمل لقطات الفيلم حين يصور المخرج الكلب وخطواته البطيئة الحذرة خارج المنزل ثم تراجعه وعودته إلى الداخل مجدداً. حبذا لو كانت هذه العلاقة الطريفة من التماهي التي يخلقها المخرج بينه وبين الكلب هي نقطة ارتكاز الشريط، فهي ببساطتها المعبرة تنقل إلينا حالة القلق عبر أسلوب مبتكر في حين أنّ الحوارات المطولة التي تدور بين المخرج وأفراد العائلة، بطابعها غير الانتقائي تضعف الشريط أكثر منها تغنيه. أما في وثائقي «هوم سويت هوم» لنادين نعوس (18/3)، فتنطلق المخرجة أيضاً من سيرتها العائلية لتستعرض الوضع السياسي والاقتصادي في لبنان. تسرد رحلة عودتها إلى الوطن إثر اكتشاف الأزمة الاقتصادية التي يمر بها أبوها المهدد بخسارة مدرسة الرابية التي أسسها في الضاحية عام 1967 بعد قرار البنك بالحجز عليها وبقية ممتلكاته إن لم يسدد قروضه. تمزج نعوس بين الفيديو والتحريك والفوتوغرافيا ضمن إيقاع حيوي. من خلال قصة مدرسة الرابية، تروي التحولات التي شهدتها الضاحية حين باتت تحت سيطرة «حزب الله» وما تبعها من تغيير في المناهج الدراسية كما دروس الدين التي باتت إجبارية.
مع ذلك، يبقى الأب متمسكاً بالمدرسة التي يحاول إنقاذها بأي ثمن ولو لم تعد له حرية التصرف فيها كما يشاء، متمسكاً بالأمل الذي لا يفهم كل من حوله مصدره. أما وثائقي «المرحلة الرابعة» للمخرج أحمد غصين فهو أكثر تجريبية في منحاه مما سبق. يعتمد على الرمزية في سرده السينمائي ويبحث في تشريح الصور المرتبطة بمفهوم المقاومة و«حزب الله» عارضاً هيمنة الأخير الجغرافية أو الفكرية، مستخدماً شاشة الحاسوب كواسطة في بعض اللقطات، كما في مشهد إعداد قالب الحلوى المزين للشهيد أو شخصية الساحر الذي يسرد كيفية دخول المرحلة الرابعة من التنويم المغناطيسي، ومن هنا عنوان الفيلم. ورغم الجمالية البصرية المبتكرة في تجريبيتها في عدد من اللقطات، إلا أن الإيقاع البطي الثابت الذي يعتمده غصين يخرج عن السرد السينمائي ليصبح أشبه بعرض للمفاهيم أو الأفكار المتناولة بخاصة المشاهد الطويلة التي تستعرض شاشات الحاسوب. يعرض أيضاً في مهرجان «ثمانية وعشرون ليلاً وبيت من الشعر» لأكرم الزعتري (18/3)، و»لي قبور في هذه الأرض» لرين متري (20/3)، و»مونومنتوم» لفادي يني تورك (21/3).

* «أيام بيروت السينمائية»: حتى 21 آذار (مارس) ــ فضاءات مختلفة في بيروت ــ للاستعلام: 01/293212