هو متواجد على الدوام في مركز الشرطة، قابع في مكتبه الخاص. يكلَّف بمهمة فيضع السماعات ويعمل بهدوء، والكل ينتظر وينصت إلى ما سيقوله بإمعان. هو شرطي، لكنه غير مسلّح. هو محقق، لكنه قلّما يخرج إلى الشارع. وإذا فعل فبرفقة عصا بيضاء يحملها أينما ذهب «تقيه من أخطار قاتلة»... هو أحد الشرطيين القلائل الذين اعتمدتهم أخيراً بعض الدول الأوروبية للتحقيق في القضايا الإرهابية، وميزتهم أنهم... عميان. مجموعة من 6 أشخاص، ممن فقدوا قدراتهم البصرية، عيّنتهم بلجيكا أخيراً، كما تشير صحيفة «انترناشونال هيرالد تريبيون»، ضمن وحدة خاصة تابعة للشرطة، مهمتها متابعة كل التسجيلات ومراقبة الاتصالات المتعلّقة بمشتبه فيهم بقضايا إرهابية، حين يعجز المحققون «العاديون» عن «رؤية» بعض الأمور التي تخفى عن الناظرين وتلتقط من قبل العميان، بواسطة حاسة السمع الحادّة لديهم. الاستعانة بالعميان في التحقيقات ليست حديثة العهد، لكن الإقبال على خلق وحدات خاصة لهم وتوكيلهم بقضايا إرهابية دولية من قبل دول أوروبية، يعدّ ظاهرة لافتة. ويُضمّ إلى الجهود التي تبذلها تلك الدول للتضييق على المجموعات المشتبه فيها ومراقبتها عن كثب.
ساشا فان لو (36 عاماً) أعمى منذ الولادة. عمل على تطوير حاسة السمع لديه بشكل كبير طوال حياته، وهو اليوم من بين المجموعة التي شكّلتها بلجيكا. يقول المحققون الكبار إنّ «عمله خارق».
ينصت ساشا إلى شريط مسجّل لمراقبة أحد المشتبه فيهم وهو يركب سيارته، وما إن يدير المشتبه فيه المحرّك، حتى يعرف ساشا نوع السيارة التي يقود. وعندما يوكَل بمراقبة هاتف أحدهم فهو يستطيع عبر سماع نقر الأرقام على جهاز التلفون، تحديد رقم الهاتف الذي طلبه المشتبه فيه للتوّ. كما يستطيع في معظم الأحيان تحديد موقع المتصل إذا كان في الشارع أو في مطعم أو في المطار... وأخيراً أبرز ساشا قدرته على تمييز اللكنة لدى المتحدثين. ففي قضية أخيرة، كان المحققون قد حددوا هوية المشتبه فيه بأنه من أصل مغربي، من خلال لهجته التي يتكلّم بها، ولكن بعد أن سمع ساشا إحدى المخابرات الهاتفية استطاع أن يؤكّد أن الشخص ألبانياً وليس مغربياً، وهذا ما أثبتته نتائج التحقيقات لاحقاً. ومنذ ذلك الوقت أصبح ساشا يعرف بصاحب «مكتبة اللكنات». وهو يتقن بالفعل سبع لغات، منها الروسية والعربية. وعندما تسأله عن «المشكلة» التي يعاني منها، وهي فقدان البصر، فهو يقول «مشكلتي لها حلّ. فأنا لا أتنقّل من دون عصا، هي تقيني من أخطار قاتلة وخاصةً في الشارع، ما اعتمدت عليه طوال حياتي هي حاسة السمع فنمّيتها واستفدت وأفدت غيري منها». كما يضيف: «الضجيج يزعج الناس في أغلب الأحيان، ولكني استمتع في فكّ رموزه وخفاياه بتقسيم الأصوات وتفنيدها».
وعلى الرغم من إبدائه شعوراً بالندم لعدم قدرته على حمل السلاح أو المشاركة في الاعتقالات والمداهمات، يقول ساشا «أشارك قدر المستطاع في التحقيقات وذلك باختصاصي في كشف الأصوات وخفايا التسجيلات، لذا فأنا أستمتع بعملي رغم أني لا أحمل سلاحاً ولا أنفذ اعتقالات مباشرة، لكن ما أتوصل إليه قد يقود البعض إلى السجن»
من هنا يؤكّد المسؤولون في أقسام التحقيقات التابعة للشرطة، أنّ تغييرات قد تطرأ على طبيعة العمل الكلاسيكية للتحقيقات، إذ يمكن الإفادة من خبرة أشخاص غير متوقّعين، فإن «أعمى يتقن سبع لغات ويتعرّف على الأشخاص من أصواتهم لا بدّ أن يكون ذا فائدة كبيرة في مجالنا».