strong> خليل صويلح
يتطلع فيلم «بلد البنات» للمخرج عمرو بيومي الذي عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير، إلى مراودة منطقة سينمائية تدير ظهرها للموجة السائدة في مصر اليوم. هذه الموجة التي أطاحت مقترح جيل أسّس لسينما مختلفة، قبل أن تنهار لمصلحة الضحك والتسلية وشباك التذاكر. وسوف تستعيد مشاهد «بلد البنات» شيئاً من روح رضوان الكاشف لجهة المعمار البصري والبنية الدرامية والتوغّل في بهجة الحياة اليومية وميلودراميتها. السيناريو الذي كتبته علا الشافعي برهافة وحس تهكمي، ينهض على حكاية أربع بنات، يقررن الإقامة والعمل في القاهرة بعد تخرجهن من كلية الصحافة. هكذا، يستأجرن شقة مفروشة في حي شعبي ويبدأن البحث عن فرصة عمل، مدفوعات بنظرة مثالية للحياة. لكنهن سرعان ما يواجهن المتاعب وسط دوامة الضغط المعيشي. وإذا بشارع الصحافة يتكشّف عن صورة أخرى، أقلها وطأة التحرش الجنسي والمحسوبيات والخداع. هكذا ستنشأ لكل واحدة من البنات قصتها الخاصة، تبعاً لظروفها وتطلعاتها ومفهومها للحب والحرية وسط تناقضات النشأة الأولى. فالبنات الأربع جئن من أقاليم مختلفة، وتقاليد اجتماعية متباينة، بينهن واحدة من أصول بدوية (ريم حجاب)، كان الفيلم قد بدأ بحكايتها: الطفلة الشقية التي تتسلق أشجار النخيل، وتخوض حافية في طمي السواقي في طريقها إلى المدرسة، مثقلة بتعليمات صارمة عن معنى الشرف. في الجامعة، ستواجه تقاليد أخرى وتتعرف عن كثب إلى حياة الأخريات. ونتيجة ذلك، تحاول أن تتخفف مما يكبلها تاريخياً، وحين تختبر أول قصة حب، تقع ضحية مخرج تلفزيوني، فتحمل منه ثم يتخلى عنها. تتشابه خيبات الأخريات في الحب ويدفعن فواتير نزواتهنّ وأحلامهنّ الصغيرة لتتحول البهجة الأولى إلى كوابيس.
هذه التجارب في اشتباكها مع الحياة، تضيء نماذج من مشكلات الأنثى في المجتمع المصري اليوم. فالمرأة العاملة ضحية نظرة ذكورية جاهزة حيث لا تمايز بين حالة وأخرى، وهو ما يجعل الإفلات منها صعباً للغاية، إذ إن هناك مسافةً كبيرة بين الحلم والواقع.
لا يدعو الفيلم إلى التمرّد، بقدر ما يرغب في إضاءة سطح معقّد من المشكلات الراهنة، فإذا كانت هذه هي حال شابات مثقفات، فما هو مصير نماذج أخرى، لا يتمتعن بالقدرة على التمييز بين الخطأ والصواب. من باب موارب، يتسلل سؤال جوهري آخر: أيهما أكثر رسوخاً، التقاليد أم التجربة المعيشة؟ ذلك أنّ أولئك الشابات يواجهن، كلٌّ على طريقتها، ثقل المعايير البيئية الراسخة في تفكيرهنّ، على رغم اشتباكهنّ مع تجارب بيئية أخرى، تفرزها مدينة طاحنة مثل القاهرة .فرح يوسف القادمة من الصعيد، لم تنقذها كتابة الشعر من نسيان البثور في وجهها، وعدم قدرتها على خوض تجربة حب، من دون النظر في المرآة ومواجهة هذا القبح في معاناة عميقة. في سياق دلالي، فإن هذه البثور لا تخص هذه الشخصية فحسب، بل يمكن تعميمها على الحالات الأخرى. هناك نموذج الشابة المثقفة سمية الجويني. فهي تعيش حياتين مختلفتين، واحدة سرّية مع رئيس تحرير الصحيفة التي تعمل فيها، وشخصية رصينة في حياتها المعلنة. في أحد المشاهد، تحاول سميّة أن تعلّق صورة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في الغرفة، فتواجه احتجاجاً قوياً من صديقاتها لمصلحة رشدي أباظة أو محمود حميدة، لكنها تتابع مسيرتها في الانخراط في الحركات النسويّة والندوات العامة، وإلقاء المحاضرات. هذه الازدواجية يمكن تعميمها على واقع المرأة المثقفة في المجتمع العربي عموماً. فريدة نموذج آخر للارتباك، فهي محافظة من جهة، ومتمردّة من جهة أخرى، لكنّها مثل الأخريات تنتهي إلى خيبة عاطفية، تقذف بها إلى لجة عاتية من أمواج الحياة الراهنة.
يتكئ الشريط على خلفية أغنية «بلد البنات» لمحمد منير. إذ تمتزج كلمات الأغنية بتطلعات وانتكاسات البنات الأربع: «بنات بنات بتقدر تعاند وتقدر تثور، لكن ساعات بترمي الساعات. دق الساعات بيجرح حاجات ويخنق حاجات. في بلد البنات كل البنات ماليه جيوبها سكر نبات». لعلها المصادفة وحدها أن يشتبك هذا الفيلم مع شريط آخر هو «سكر بنات» للبنانية نادين لبكي (حصل على تنويه من لجنة تحكيم المهرجان) لجهة حلاوة السكر ومرارته، في تجارب أربع نساء في مواجهة التقاليد الصارمة، ومحاولتهن كسر القيود والحواجز للخروج من نفق مظلم ومسدود.
رهافة السيناريو ونبرته الأدبية، تفتقد من جهة أخرى بعض الجسور في الانتقال من مشهد إلى آخر، وهو ما أربك إيقاع الشريط في أكثر من مكان، إضافة إلى حيرة المخرج في اختيار سردية بصرية واضحة تنظم خيوط الفيلم والحكايات الأربع بخيط مشدود ومتين.