مهى زراقط
اختتم أول من أمس «المنتدى العربي الثاني للصحافة الحرّة» الذي نظمته «النهار» في الذكرى الثانية لاستشهاد جبران تويني. وقد استعرض المشاركون التحدّيات التي تواجهها الصحافة والإعلاميون، بدءاً من ممارسات السلطة السياسية، وصولاً إلى المواد القانونية الجائرة. هذه هي المشاكل، فأين الحلول؟


من «الصحافة تحت الحصار» في العام الماضي إلى «حرية الصحافة في العالم العربي» هذا العام، تابعت جريدة «النهار» تسجيل الضغوط والممارسات القمعية التي يتعرّض لها الصحافيون في الوطن العربي من سلطات بلادهم. وعرض صحافيون ومحامون من سوريا، والأردن، وتونس، والمغرب، ومصر، وموريتانيا، واليمن ولبنان، تجاربهم المهنية في مواجهة سلطتي الدولة والمال... كما حاولوا البحث في البدائل المتاحة أمامهم: التدوين الإلكتروني من جهة، وسبل مواجهة التحدّيات من جهة ثانية.
الشكوى من ممارسات السلطة كانت السمة العامة للمداخلات. وبدا للمستمع أن كلّ محاضر كان يتسلم الحديث لـ«يزايد» على زميله في تعداد حجم الضغوط التي يتعرّض لها في بلده. حتى إنّ الضيف الفلسطيني عبد الرحيم عبد الله (منسق وحدة الصحافة في المعهد الإعلامي في جامعة بيرزيت) بدأ مداخلته بالقول: «كنت أعتقد أن وضعنا هو الأسوأ، لكن تبيّن لي أن كلّنا في الهمّ شرقٌ»... هذه العبارة ردّد مثلها في مؤتمر «النهار» العام الماضي، رئيس تحرير جريدة «الدستور» المصرية إبراهيم عيسى، قائلاً: «كل هذا يحصل عندكم؟ يبدو أن الوضع عندنا لا يزال أفضل». ولاحظ يومها أنه يكفي تغيير اسم الدولة واسم الملك (أو الرئيس)، لتصبح المداخلات واحدة، علماً بأنّ بعض هذه المداخلات كانت واحدة فعلاً، إذ اكتفى بعض المشاركين بإعادة قراءة الكلمة التي كان قد تلاها العام الماضي، مع تغيير «إنشائي» في المقدمة.
زاد من هذا الجوّ المتشائم، اعتذار عدد من المحاضرين عن المشاركة لأسباب تتعلق بمنعهم من السفر من سلطات بلادهم (هشام قاسم من مصر، ومازن درويش من سوريا)، إضافة إلى ورود خبر اعتقال 20 صحافياً سورياً، كما أعلن حسن كمال (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير في سوريا). وهذا الأخير، طلب من إدارة المؤتمر، الخروج ببيان تضامني مع الصحافيين المعتقلين.
لا شك في أنّ شكاوى الصحافيين محقّة، وخصوصاً أنّ المتحدثين عنها هم ممن وقع عليهم الظلم... إلا أنّ ما غاب عن الصحافيين والمحامين، والأهم عن منظّمي المؤتمر، أنّ ممارسات كهذه من سلطات غير ديموقراطية ليست، ولم تعد، محلّ استغراب، وأن الحديث المتكرّر عنها (الذي يبقى ضرورياً)، يفترض أيضاً الالتفات إلى الحديث عن النفس. فقد لفت في كلّ محاور المؤتمر الأربعة غياب نظرة الصحافيين إلى أنفسهم: هل يعون أنهم أيضاً أصحاب سلطة أم لا؟
فإذا كان الصحافيون يعرفون أنهم أصحاب سلطة، فعليهم أن يتوقعوا حرباً ضروساً من سلطة أخرى تخاف على موقعها، وبالتالي أن لا تبقى مسألة خوض معركة «تقاسم» الصلاحيات (لجهة المراقبة والمحاسبة من الصحافة، على سبيل المثال) مجرد شكوى، بل أن تنتج أسئلة أكثر جدية تتيح الحصول على إجابات عملية تضاف إلى بيانات التضامن والإدانة. وهذا يعني أن المطلوب كان الحديث بين أهل المهنة بشفافية ووضوح أكثر عن دورهم وتحديد ما يخيف السلطات منهم، وما يرغبون هم في القيام به، لكي يستطيعوا تشخيص آليات التغيير بشكل أفضل. وهذا ما لم يحصل، بل اقتصرت الشكوى من السلطة على تكرار الحديث عن وسائل القمع المتبعة بعيداً عن أيّ اقتراح حلّ أو «تحايل».
الأمر الثاني الذي لا يقلّ أهمية هو غياب التمييز بين الصحافيين كأفراد، وبين المؤسسات الصحافية، إذ يواجه كلّ من الطرفين تحدّيات مختلفة. ولا بأس من الإشارة إلى أنّ أوّل العوائق التي يواجهها الصحافي الفرد هو المؤسسة التي يعمل فيها (سقفها وعلاقاتها...) في حين أنّ المؤسسات الصحافية (المستقلة) تواجه سطوة السوق... وغالباً قبل سطوة الدولة. هكذا، لم تتكامل الجلستان المثيرتان للجدل (علاقة المؤسسات الإعلامية مع سلطتي الدولة والمال) مع الجلستين المتعلقتين بالبدائل وسبل المواجهة، اللتين قدّمتا اقتراحات حلول للصحافيين لا للمؤسسات.
أما الإشكالية الثالثة التي غاب عنها المؤتمر، فتتعلق بالمداخلات نفسها. وبعيداً من الخوض في مضامين المحاضرات التي ألقيت، والتي تفاوتت في مستواها، يبرز السؤال عن غياب أي باحث أكاديمي يشرح للحضور (على الأقل) آليات تغيير قوانين الإعلام في العالم والأسباب التي كانت تدفع إليها، وخصوصاً أن معظم المداخلات تناولت المواد القانونية الجائرة التي تتيح للدولة تحريك القضاء ضدّ المؤسسات الإعلامية والصحافيين. ومن المفيد في هذا المجال، الإشارة إلى أنّ معظم الأسباب التي دفعت إلى تعديل القوانين الإعلامية في العالم وتنظيمها، لم تكن في غالبها مرتبطة بالرغبة في إعطاء الحرية للصحافيين بقدر ما شكّلت استسلاماً من الدولة، وتخلّياًً ذاتياً عن جزء من سلطتها، أمام قوة الاستثمار في المؤسسات الإعلامية التي تعدّ أبرز موارد المال في العالم اليوم.
تبقى الإشارة إلى مداخلة قصيرة لعميد «النهار» غسان تويني، في إطار أعمال الجلسة الأولى (أحدث السياسات الحكومية في مواجهة الصحافة)، حين نصح بأن «تدخل الصحافة في الجسم السياسي، وأن تُنشئ تيارات صداقة تدافع عنها». هذا الاقتراح، القابل للتطبيق، يفترض تعزيزاً لدور المجتمع المدني... ويفترض قبلها تفعيلاً لعمل النقابات الإعلامية. إذ يكون السؤال، لبنانياً، عن دور نقابتي الصحافة والمحرّرين، ولا سيّما في ظلّ استنسابية التنسيب إلى الأخيرة، وبقاء مئات الزملاء «منتحلي صفة» أمام القانون، فيما يعمل عدد كبير من المنتسبين إلى النقابة في مهن أخرى غير الصحافة.