خليل صويلح
الكتابة كمين لاصطياد الذكريات ومحاولة لترويض الوحش داخلنا. هذا ما يسعى إلى مقاربته عادل محمود في روايته الأولى «إلى الأبد ويوم» (جائزة دبي الثقافية للإبداع ـــــ 2007). لكنّ هذا الشكل من الكتابة الطليقة والتجوال في تضاريس العالم ـــــ من موقع سيروي صرف ـــــ يقود النص إلى فخاخ سردية كثيرة.
هكذا تنهال الذكريات من كل صوب لتنتهي إلى ما يشبه الحكمة. إذ إنّ الشاعر حاضر في الهامش والمتن، لشحن ما لا يمكن الإمساك به وتبريره. هناك على الدوام قصة لا تروى كما ينبغي، أو أنّ الحياة تقودها إلى مطارح عبثية عصية على التوصيف والتفسير. ولعلّ هذا الانتهاك اللغوي ما هو إلا محاولة لحالات الانتهاك القسري للأحلام؛ فها هي «كسّارة البندق» تقع في كمين عميق يؤدي بها إلى الصمت الأبدي بعد أن يغتصبها شقيق زوجها، لتكتشف متأخرةً، أيّ هاوية سحيقة وقعت بها في ظل شخص انتهك القوانين كلّها من دون أن يحقّق لها الطمأنينة. وستظل هذه الشخصية تطارد الراوي مثل لعنة أبدية، أو إثم على ندم الغياب. تكتب في إحدى رسائلها للراوي «مهما تظاهرنا بالنسيان وانعدام الوزن، سيبقى لدينا ما يكفي لإشعال النار حين تهب رياح الذاكرة». بعيداً من الأسى الشخصي، يفتح الراوي عدسةً مكبرةً لدرس أحوال البلاد التي «لم يبق فيها شيء سوى القبور والسجون والخيبات»، وهو ما يقوده إلى الرحيل بعيداً مثل سندباد خائب، يستظل رياح المنظمات الفلسطينية من قبرص إلى تونس ليعود أخيراً إلى قريته الساحلية بحثاً عن قبر لائق قرب شجرة سنديان معمّرة في نوع من «تجميل الخسائر». ولأنّ هذا النص في شكله النهائي، دفتر مفتوح على مرايا الذاكرة، سوف يستعيد الراوي في مروحة واسعة، خيبة جيله، من أحزان هزيمة الـ 67 إلى حرب أكتوبر التي عمل خلالها مراسلاً حربياً في الجبهة إلى انكسارات أحزاب اليسار، وعواصف عائلية وزّعت الأبناء إلى الجهات الأربع. وسوف يكون الراوي جسر الندم في وصف مصائر الأخوة والأم التي أغمضت عينيها أخيراً في المستشفى على غياب ابنها المفقود وابنتها المعتقلة.
«إلى الأبد ويوم» تستنجد بالشعر والحكمة والسيرة، حين يستعصي الوصف على الراوي. وإذا بها في نهاية المطاف، سيرة جيل مهزوم، استيقظ من أحلامه القومية وتطلعاته الشخصية، على كابوس طويل من المجازر والنحيب والندم واليأس. لكنّ الراوي ظل يحفر خنادق الأمل، تعويضاً عن خسائره المتتالية «أنا جواد لا يعود إلى الاصطبل في المساء إلا لكي يتهيأ مرةً أخرى للحلم في البراري الشاسعة في النهار».
لكن ما هي المسافة الفاصلة بين الرواية والسيرة؟
في هذا الكتاب، تتداخل السرديات وفقاً لمشيئة الذاكرة، فيما ينحسر التخييل والمعمار الروائي في خط واحد، يتعلق في علاقة الراوي بشخصية «كسّارة البندق» التي افتتح بها الحدث وأغلق الدائرة عليها. ولهذا السبب ربما، يحتج الراوي أخيراً بقوله «الكتابة هي حياكة مخبولة وعبثية... للهاوية».