بشير صفير
• بين فيتنام والعراق، ماذا بقي من أسطورة الستينيات؟

كتاب عن حياته في فرنسا، وفيلم يستعيد مسيرته في الولايات المتحدة... بعد عقود من «الاحتجاج»، ما زالت الأيقونة حيّة، وما زالت أميركا تواصل حروبها. لكنّ الزمن تغيّر، وعاشق أرتور رامبو الذي اعتنق الدين المسيحي أوّل الثمانينيات، لا يتردد في تقديم إعلان لـ«كاديلاك» أو ملابس داخليّة نسائيّة. Bob Dylan Revisited

هل هو من الولايات المتحدة أم من أوكرانيا أم من تركيا؟ هل هو يهودي أم مسيحي؟ هل هو شيوعي أم مناضل يساري أم إنسانوي؟ هل اسمه بوب أم روبرت؟ هل شهرته بن أبراهم أم تزيمرمان، أم ديلن؟ كلّ سؤال يحتمل إجابات عدة، متشعّبة بتشعّب حياة أيقونة جيل كامل هو جيل الستينيات. ولعلّ الأمر الوحيد الذي لا يحتمل نقاشاً هو أنّ بوب ديلن تنطبق عليه صفة قلّما عرفها فنان أو أديب أو حتّى قائد تاريخي خلال حياته. إنّه «أسطورة» حيّة، والرمز الأشهر لأغنية الاحتجاج prostest song المناهضة لحرب فيتنام! لذا نكاد نضيف إلى الأسئلة السابقة: أما زال ديلن على قيد الحياة؟
ذلك أنّ دهراً يفصلنا عن الستينيات. وحرب فيتنام حلت مكانها حروب استعماريّة أخرى أكثر بشاعة، من أفغانستان إلى العراق... ولم تعد تثير موجات من الاحتجاج في الفن الأميركي والأغنية الأميركيّة. نعم بوب ديلن هنا، نصف قرن من الإنتاج الفني في مجال الأغنية الأميركية الشعبية التي كانت ولا تزال لسان حال المناهضين للعنصرية والحروب، وصوت المهمّشين والمدافعين عن الحقوق المدنيّة. يتابع ديلن نشاطه الموسيقي وكتابة نصوصه التي تتسم بالبساطة والمزاج الأدبي الواضح. حتى أنّ اسمه طُرح مراراً لنيل جائزة نوبل للآداب.
هذه المسيرة الفنيّة الحافلة، جعلت من حياته مادّة خصبة للكتّاب والمخرجين. وآخر هؤلاء الفرنسي فرنسوا بون الذي أصدر أخيراً كتاباً بعنوان «سيرة بوب ديلن»، قبل فترة قصيرة من فيلم «أنا لست هناك» (I’m not there) للمخرج الأميركي تود هاينز.
قبل هاتين السيرتين الأدبية والسينمائية، صدر الجزء الأول من السيرة الذاتية Chronicles التي نشرها ديلن نفسه عام 2005، والوثائقي الضخم الذي أخرجه السينمائي الأميركي الشهير مارتن سكورسيزي بعنوان No Direction Home (٢٠٠٥). شريط سكورسيزي الذي طبع على أسطوانتي DVD يحتوي شهادات عن ديلن أدلت بها شخصيات مقرّبة منه، ومقتطفات نادرة أو غير منشورة قبلاً من حفلات حية ولقطات شيقة أخرى، إضافة إلى مادّة محورية في العمل هي رواية ديلن للمحطّات والمراحل الأساسية في حياته (ثلاث ساعات ونصف تقريباً).
ولد روبرت ألِن تزيمرمان، الذي أصبح بوب ديلن لاحقاً، عام 1941 في الولايات المتحدة، علماً بأنّ أجداده لجهة والده هاجروا من أوكرانيا مطلع القرن، إثر المذابح المعادية للسامية عام 1905. لكنّ ديلن يقول في سيرته الذاتية إنّ أجداده لجهة والده هم من أصل تركي، فيما أجداده لجهة والدته هم من أصل ليتواني.
في المدرسة، راح بوب الصغير يؤسس فرقاً موسيقية، تستعيد أغنيات معروفة من التراث الشعبي الأميركي. أصدر أسطوانته الأولى عام 1962 بعنوان «بوب ديلن». وقد حوت أغنيات معروفة من التراث الشعبي والبلوز وأغنيتين خاصتين. في ألبومه الثاني The Freewheelin’ Bob Dylan اكتسب صورته مناهضاً للعنصرية، وبدا متأثراً بفنانين أميركيين يساريين، أمثال وودي غاثري وبيت سيغر. وقد استعاد في بعض نصوصه أحداثاً واقعيّة، مثل Oxford Town التي تروي قصة أول أسود يجرؤ على طلب العلم في جامعة ميسيسيبي. كما حملت أغنيات أخرى الطابع نفسه أو تناولت الحب، بأسلوب فكاهي أو تهكمي... كلّها كرّست صاحبها رمزاً لما عرف بتيار الأغنية الشعبية الجديد. وتوالت نشاطاته مؤلفاً وكاتباً وعازف غيتار وهارمونيكا في آن معاً، إذ كان يثبت آلة النفخ هذه إلى رقبته على مستوى الفم.
شارك ديلن في مسيرات مطالِبة بالحقوق المدنية للزنوج، وكتب المزيد من النصوص التي تتناول أحداث قتل أو اعتداء على أشخاص ذنبهم الوحيد أنّهم سود. وهذا ما دفع إحدى اللجان الوطنية المطالِبة بالحريات المدنية إلى منحه جائزة إثر اغتيال الرئيس الأميركي جون كنيدي. إلا أنّ ديلن الذي قبل بالجائزة، راح يشتم اللجنة وأعضاءها وهو في حالة سكر، مصرّحاً بعنف بأنّه يرى في نفسه وفي أي إنسان شيئاً من قاتل كنيدي.
في أواسط الستينيات، توجه ديلن في موسيقاه إلى الـ«روك أند رول» الذي راج آنذاك في العالم انطلاقاً من بريطانيا مع الـ«بيتلز»، وأدخل «الكهرباء» إلى موسيقاه في ألبوم Bringing All Back Home، ما سبّب امتعاض جزء من جمهوره. وقد شهدت تلك الفترة ظهور أشهر ألبومات ديلن، مثل
Revisited 61 Highway و Blonde On Blonde... في عام 1966 تعرّض لحادث كاد يودي بحياته، عندما تعطّلت مكابح دراجته النارية. يذكر دائماً بوب ديلن هذه الحادثة التي سرت حولها شائعات كثيرة، وهناك من رأى أنها مفتعلة ومدبّرة... حتى أنّ أحد الذين كتبوا سيرته ذكر أنّه لم يتم الاتصال بسيارة إسعاف لنقل الجريح إلى المستشفى!
تعافى ديلن بعد سنة ونصف، وتابع نشاطه الفني. أما أعماله، فباتت تستقبل بأشكال متضاربة... لكن النقاد أجمعوا لاحقاً على القيمة الفنيّة والأدبيّة لأعماله. «قَبِل ديلن المسيح في قلبه»، وتعمّد أواخر السبعينيات بعد متابعة دروس في الإنجيل... في تلك الفترة أصدر ألبومي Slow Train Coming وSaved الغارقين في مناخات الـ Gospel الترتيل الديني كما يمارسه سود أميركا. وقد ربح «جائزة غرامي» عن إحدى أغنيات الألبوم الأوّل. وقد أثار موضوع التحوّل الروحي عند ديلن جدلاً في أوساط الجمهور والنقاد، إذ بدأ أوائل الثمانينيات ــــ بعد إشهار مسيحيته ـــــ المشاركة في الاحتفالات الدينية والطقوس اليهودية. وآخر تلك الإطلالات الدينيّة يعود إلى أيلول (سبتمبر) الماضي...
واليوم، في السادسة والستين، ما زال رمز أغنية الاحتجاج الأميركيّة في دائرة الضوء. تابع ديلن كتابة النصوص وتلحينها وكتب أعمالاً لأفلام سينمائية، وما زال نشيطاً. إذ صدر ألبومه الأخير Modern Times العام الماضي الذي نال جائزتين من «جوائز غرامي»، من أصل ثلاث رُشّح لها. كما اختير أفضل ألبوم لعام 2006 من مجلتي «رولينغ ستون» و«أنكات» (UNCUT) الشهيرتين.
كل هذا التاريخ «الاحتجاجي» على أشكال الظلم والعنصريّّة، لم يمنع ديلن من المشاركة في إعلان لماركة ملابس داخلية، هي Victoria’s Secret، في عام 2004، وفي الحملة الدعائية لشركة «كاديلاك» في تشرين الأول (أكتوبر) 2007. ربما يكون هذا التنازل من سمات جيل الاحتجاج الستيني في الولايات المتحدة (والعالم؟). لقد «تصالح» منذ سنوات مع «الأمر الواقع»، وانخرط في نظام القيم السائدة، مستسلماً للعبة المجتمع الاستهلاكي...