بشير صفير
اعتبر اعتداءات ١١ سبتمبر أضخمَ عمل فنّي في التاريخ
رحل قبل أيام كارلهاينز شتوكهاوزن، تاركاً في عالم الصوت والموسيقى أكثر من 350 عملاً مبنيةً على قواعد موسيقية رائدة واتجاهات تخطّت عوالم ما بعد الحداثة، وما زالت تثير الجدل حتى يومنا هذا. لم يتبع المؤلف الألماني الشهير أي قاعدة موروثة في مجال التأليف الموسيقي، بل تبنّى أحدثها من مؤلفين معاصرين، أو ابتكر أغربها في أحيان كثيرة. وهو من أهم المؤلفين في القرن العشرين في أوساط الطليعيين، وكارثة لآذان المحافظين والكلاسيكيين.
ولد شتوكهاوزن في ألمانيا عام 1928، ودرس البيانو والفيولون والهوبوا، وقواعد التأليف الموسيقي والتوافق والتقابل... كما درس الفلسفة. جمعه هذا التحصيل الأكاديمي مع موسيقيين طليعيّين في القرن العشرين، أمثال فيليب غلاس وجون كايدج وتيري رايلي وغيرهم، لكن سرعان ما سيكتشف الجمهور أنّه أكثر راديكالية من هؤلاء، على راديكاليتهم!
تابع دراسته الموسيقية في فرنسا مع داريوس ميلو وأوليفييه ميسيان... وتأثر بالأخير الذي كان من أعمدة المدرسة الفرنسية الباحثة في التجارب الموسيقية الحديثة. كما تأثر بمدرسة فيينا الثانية، ومدرسة «اللامقامية»، وخصوصاً بأنطون فيبرن أحد مؤسسي هذا التيّار.
شتوكهاوزن هو أحد رواد «الموسيقى الواقعية» (Musique concrète) التي ترتكز على أصوات من عالم الواقع في عملية التأليف الموسيقي/ الصوتي، إلى جانب الفرنسيين بيار شافر وبيار هنري، إضافة الى اهتمامه بالموسيقى الإلكترونية منذ أواسط القرن الماضي.
وبلغ به تطلّعه إلى آفاق جديدة في عالم الموسيقى إلى حدّ كسر قواعد التدوين بالنوتة الموسيقية، معتمداً الرسم البياني في الموسيقى الآلاتية (Graphical Notation). وله عمل مكتوب استناداً إلى هذه القاعدة يمكن أن يقرأه العازف في جميع الاتجاهات: من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس، ومن اليمين إلى اليسار وبالعكس (عنوان العمل Zyklus، وضعه عام 1959). ومن أعماله الأكثر تعقيداً، أوبرا بعنوان Licht (ضوء أو نور) وهو عبارة عن سبعة أجزاء تحمل عناوينها أسماء أيام الأسبوع، ولكل يوم دلالة فلسفية مستوحاة من تقاليد تاريخية (الاثنين: ولادة وخصوبة، الثلاثاء: صِدام وحرب، الأربعاء: مصالحة وتعاون...). بدأ شتوكهاوزن كتابة هذا العمل في عام 1977 وأنهاه عام 2003. تبعه عمل ذو هدف مشابه يرتكز على ساعات النهار الـ 24 بعنوان Klang (صوت) أنهى منه المؤلف21 ساعة ثم رحل.
من عمله الضخم Licht، اشتهر مقطع من «الأربعاء» هو «رباعي هليكوبتر» يتطلّب تقديمه أربع طائرات مروحية ورباعي وتريات كلاسيكياً. وهو يقدّم على الشكل التالي: يصعد الموسيقيون الأربعة إلى الطائرات، يدير الطيّارون المحركات، ويقلعون في لحظة محددة. وبالتوازي يعزف رباعي الوتريات جملاً بوتيرة تصاعدية، تحلّق الطائرات في فضاء الساحة التي يجري فيها العرض ثم تعود إلى القاعدة.
إمدادات الصوت تسمح لجميع المشاركين بسماع بعضهم بعضاً، كما يُنقل الصوت عبر مكبّرات إلى الجمهور وكذلك الصورة. وقد عُرض هذا العمل أكثر من مرّة، وهو متوافر بتسجيل CD وحيد، للرباعي Arditti Quartet المتخصّص في الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة.
استعمل العديد من العاملين في صناعة السينما أو المسرح هذا العمل مرّات عدّة. وأوّل مَن استخدم موسيقى شتوكهاوزن عربياً في عمل سينمائي، المخرج اللبناني كريستيان غازي الذي التقى المؤلف الألماني في لبنان عام 1970. يومها، كان شتوكهاوزن يقدّم عملاً بعنوان Hymnen (أناشيد) في مغارة جعيتا، فاستأذنه لاستعمال هذه المقطوعة في فيلمه الذي يعود إلى الفترة نفسها «مئة وجه ليوم واحد» عن العمل الفدائي عند ذروة الكفاح الفلسطيني المسلّح.
في 16 أيلول (سبتمبر) عام 2001، سُئل شتوكهاوزن عن رأيه باعتداءات 11 أيلول، فأجاب بأنّه يرى فيها أهم وأضخمَ عمل فنّي في التاريخ. هذه الإجابة أثارت سخطاً واسعاً في العالم، ما دفع المؤلف إلى شرح موقفه بأنّ «التدمير الهائل وقَتل أكثر من خمسة آلاف شخص في لحظةٍ واحدة في مشهد كانت عيون الملايين شاخصةً إليه، عملٌ لا يستطيع تحقيقه أهمّ فوضوي في أقصى درجات ذكائه وإبداعه الفنّي» القائم على التدمير والتخريب.