أنسي الحاج
واخَجَلي من كلام الرغبة في أرض الويلات. أرض الغزاة السريّين، الجريمة الكاملة، المستمرّة دون فاعل ولا عقاب. كلّ يوم قتلى والأحياء مشاريع قتلى. ما دام خطاب تبرئة الذمّة يقول «ارفعوا أيديكم عن لبنان» بصيغة الجمع ولهجة التمنّي فلن يرتاح لبنان. ما دام القادر يلاطف القاتل فلن يتوقّف القتل. واخَجَلي من هذا الأسى الأخلاقي، أليس مُثْبَتاً بالدم أن الأخلاق سلاسل الضعفاء وحشيشة الفقراء؟ كلّما ازدادت الدول العظمى قدرةً تَعاظَمَ جبنها، وكلّما تجاسر عليها المتجاسرون ازدادوا ثقة بأنها ستنتهي بمكافأتهم. وحقّاً يعتقدون. أمّا الفريسة بين الطرفين فمجرّد لعبة.
واخَجَلي من هذا العزف المنفرد. لكنّه الاختناق، لكنّه التساوي بين الصمت والكلام. واخجلي من الحياة.

لا يُسأل أعنكِ يتحدّث الرجل أم عن شيء آخر، فهو دائماً يتحدّث عنكِ ولو تحدّث عن شيء آخر.

وزْنكِ وزن وهجكِ. قَدْرُكِ قَدْر جاذبيّتك. الجمال هو سلْطته وسلْطته تقاس بأعماق هدوئه. النحت الفرعوني أنْقَصُ شكليّاً من النحت الإغريقي لكنّه أكمل منه روحيّاً. الهدوء المنبعث من الفرعونيّات هدوء المعاناة والمعرفة والحكمة، زائدة هدوء عجزٍ ما عن متابعة المعرفة. الجمال الإغريقي ساحق وغير إنساني. سلطة الجمال لا تَسْحق بل تَشيل، ترأف كما ترأف أمّ اللّه. الجمال يَشْبُق، كالصاعقة، إنّما شَبْقة مَن يدعوكَ إلى الاستغراق وحتّى إلى الاحتراق، ولكن ليس إلى الانسحاق. الجمال هو اليد الممدودة إلى الغريق.

«إذا كانت كلّ الأنهار من مياه عذبة، فمن أين يأخذ البحر ملحه؟» (بابلو نيرودا، ترجمة بول شاوول، حديثاً عن دار النهضة العربية).
وكأنّه استفهام جوابي جاء بعد عقود، أو هو جواب استفهامي، يقول عبده وازن في مجموعته الجديدة «حياة معطَّلة» (دار النهضة العربية): «الظلمةُ وَهْمُ نفسِها/ أين تُراها تتوارى/ عندما يغيب الليل؟».
يعترض الشاعر دولاب الزمن، يوقفه، يُقرّعه. «جاوبْ!». وإذ لا جواب غير سؤال آخر، يبدّل الشاعر صيغة الخطاب، كما يفعل الطفل، وعوض أن يَسْتنطق، يَفْرض، يأمر، يَخْلق العالم على هوى يأسه من العالم. يقول أيضاً عبده وازن في كتابه: «من أجلكِ/ سأؤنّث كلّ شيء/ سأقول: أيّتها القمر، أيّتها البحر، أيّتها الوجه، أيّتها الضوء/ من أجلكِ/ سأؤنّث الحجر/ والدم/ والبرق/ سأؤنّث الماء والتراب/ من أجلكِ سأقول:/ أيّتها العالم/ أيّتها الموت/ من أجلكِ/ سأؤنّث المؤنّث أيضاً».
يقول الشعر دوماً إن الليل يستحمّ في الشمس المحجَّبة كما أن النهار يستحمّ، من وراء ظهر كادحيه، في الظلمة المخبّأة. في كلّ مكان خدور ومخادع، معظمها وراء الغياب. لا تحاولي نزع الأقمشة عن صوتكِ، لقد خُلِق هو وقَدَرُكِ معاً، هو وقَدَرُكِ وأقدار رجالكِ معاً.
تستحمّ المرأة استعراضاً، يستحمّ الرجل مَحْواً، لمَ تستحمّ الطبيعة؟ تستحمّ الصّبيّة لبياضها، يستحمّ الصبيّ لبياضها، تستحمّ العيون لبياضكِ. لا يقدّر نعومة جلْدكِ الماءُ ولا القماش بل رَجُلٌ روحُه أنعم من جلْدِكِ وجوعه أَخشن من الغاب.
يَنزل المطر المُحْيي من صُوَرِكِ أخصب من مطر الشتاء. يفوح العَنْبر من الإطار. لا تعبأي بمَن تجهل سحرها، سوف تَلْقى نصيبها. لا ينجو من نصيبه غير الأعمى، يقع فيه دون أخْذ العلْم. لذلك لا يموت العميان لأنّهم لم يولدوا. الصُّوَر في أذهانهم مصابيح مشعشعة تلهث وراء جفون تطفئها من حين إلى حين. حين أعمى لن أموت موتاً بل من صُوَركِ الباهرة صحراءَ عينيّ. سأتأرّق ملء جفوني، ملء جفون جميع العميان.

ناظراً إلى السماء: أهذا فقط هو سَقْفُنا!؟ لولا الغيوم أحياناً لظَهَرَ أنّنا نستحقّ أبعد من هذا الزجاج القريب.

لا يملُّ الناهلُ من الصورة. حين تغيب ملامحكِ يعروني الخوف: «ضاعت منّي؟ كيف هي!؟». الصورة عمود الخيال. عموده الفقريّ وعمود دخانه. أنام ملء جفوني عن ثباتها، عن ومضات ثباتها، وأضيع ملء روحي مع شواردها. لا يَقْصد أحد إلّا الصورة. المرأة أجمل، لأنّها الصورة الأشدّ صورة. وهي كذلك، لأن الرجل يُصوِّر ولأنها هي الشكل والنور والظلال.
أكره الأشرطة الوثائقية عن كيف تُصْنَع الأفلام. لا تدعي نظر الرجل يقع على كواليسك. لا تظهري أمامه إلا مُمَسْرحة. عريكِ، عريُ أيّ جزء منكِ، ليكن مثل القمر المحاط بالغيم الكثيف. دعي له الشفافية، دعيها للشعراء ولقرمز بَشَرتِكِ، وأنتِ تكاثفي كما يتكاثف الحرير وتَغامَضي كما تتغامض الظهورات. كلّما خلعتِ العذار ليكن منتهى الخَلْع على مسافة لا تنتهي، فأنتِ حَلْمة السراب.
تصويركِ أطيب من وصالكِ مثلما ألذُّ اللمس ما فتّش في وَضَح الجسد عن ليله وفي ليله عن نجومه وفي نجومه عن أرجوحة لا تتوقّف بين تداعٍ وتداعٍ.
... وتغدو الصورة تصوّراً بعدما كان التصوّر صورة. والتصوّر يتحوّل إلى حقيقة. لأن الحقيقة هي صورة للحقيقة. ترجعين أيّتها الأميرة إلى أصلكِ: خيالاً كنتِ في غمام الرأس وخيالاً تتحرّكين في رخاء المنزل وخيالاً تستقرّين بعد تعب الأيدي الممدودة إليكِ واستسلامها إلى حدودها...

ـــ متى تكذبين؟
ـــ حين أجيبكَ.
ـــ كيف تكونين على هذا الغموض وعيناكِ تملآن المعنى؟
ـــ حاور عينيّ.
ـــ أكرهُ الغزل، والعيونُ هزيمة الألسُن.
ـــ أخبرْني قصّتي.
ـــ ساعة تكونين كالطبيعة وساعة كالفراغ.
ـــ أنا طبيعيّة. أنا فراغ يحتاج إليه مَن يملأه مثلما يحتاج الفراغ إليه...

أيّة حريّة تحت الضغط؟ وكيف للمضغوط أن يقاوم يأسه من المقاومة؟ أرْضُنا أخت الريح تنغلق على أوجاعها. نَفْسُها تَسْخَر منها. وجه الضاحكِ يُفْجَع بالخوف أكثر من أيّ وجه، لأن غيمة الخوف السوداء لا تشبع انتقاماً من الضاحكين. الضاحك الفَطِنُ يغدو تحت الفَزَع أشدّ صفرةً من الموت، لأن البومة الكامنة في الغابة تترقّب ساعتها. كان أولى بنا أن نعلن فَقْدَنا الحريّة يوم فقدناها، لعلّنا كنّا بدأنا من مطهر جديد. لكنّنا صدّقنا الأنبياء الكَذَبة الذين راحوا يشدّون أزْرنا لنظلّ صامدين في النزف ويظلّوا مرتزقين من دمائنا. نمنا على يد المرائين حتّى استوطن الجبنُ وتوطّدت أركان الإنحلال. مَن يعرف الآن الفرقَ بين الحياة والموت؟
الافتتان بالجمال «عيب سياسي» في ظروفنا. لم يتبقّ لي غير هذا العيب أواجه به. حريّة السجين أو هذيان الصريع. ليكن. إن لم نقلْ ما بنا فلنقلْ ما نَهْرُب به.

ومَن قال إننا ما نقوله؟ نحن أيضاً ما لا نقوله. نحن ما لا نقوله مذ اكتشفنا أنّنا لسنا وحدنا ومذ اكتشفنا بعد هذا كم نحن وحيدون.

احكِ، احكِ، لن يبقى، إذا بقي، إلّا الدغدغة. نمرُّ بالحياة على أمل مداعبة. ابتسمْ لليلى واطربْ لهند. احكِ احكِ لا تجزعْ، لكَ هنا رفاق وهنالك، وما ستفتقده هنا قد تجده هنالك. زجاجة الدخان، زجاجة المكتوب، زجاجة الأمنية تسير في البحر على أكفّ آلهةٍ لا تعرف عنّا إلّا مَجاهلنا.