strong>نوال العلي
• باني برازيليا يرى العالم مقوّساً كامرأة جميلـــة

ليس مهندساً كالآخرين، إنّه أسطورة العمارة الحديثة! تلميذ لوكوربوزييه طبع القرن العشرين بطابعه. نحت روح المكان، وغنّى آلام أميركا اللاتينيّة وتطلعاتها، وترك بصماته على مدن كثيرة بينها طرابلس وقسنطينة وباريس. تحيّة إلى الشيوعي العجوز في مئويته

إنّه أحد أكبر معماريّي القرن العشرين بلا تردّد. واحد من قلّة ألّفوا الهويّة المعماريّة لعصر ومرحلة. أطلق عنان مخيلته في تصوّر الاحتمالات الجمالية للخطوط الذهنية المنحنية والمستقيمة، ثم جسّد تصوّراته ورؤاه واقعاً معمارياً مدهشاً وجديداً. أوسكار نيماير (15 ك1/ديسمبر 1907) الذي يحتفل بعيد ميلاده المئة هذا العام، هو بحقّ المعماري اللصيق بأقواسه وقبابه وانحناءاته، يقترب عبرها من حقيقة الجمال ودفئه. ولا شكّ في أنّ حميمية الالتصاق بالمكان، كانت تلمع في ذهنه الحالم عندما قال: «منذ البداية وأنا أتجاهل الزوايا وأشكال المربّعات والمثلثات لأدخل عالم الأقواس... مقوّس كالجبال، مقوّس مثل عالم أينشتاين، مثل امرأة فاتنة».
لم يخل العالم العربي من إبداعات نيماير. فقد ترك بصمته في لبنان من خلال «معرض رشيد كرامي الدولي» الذي صمّمه في طرابلس عام 1966. وقد احتفى لبنان أخيراً، على طريقته، بمئويّة المعماري البرازيلي الفريد، من خلال معرض فوتوغرافي (فارس الجمال، إيلي بخعازي، دينا دباس، حياة الرنوح، إسبر ملحم، جمانا جمهوري) أقيم أخيراً ضمن مسابقة نظمتها «جمعية المحافظة على المواقع والمساكن القديمة» و«جمعية تراث بلا حدود الفرنسية».
وإن كان نيماير أحد الذين دافعوا عن مبدأ «المنفعة» في العمارة، بمعنى أنّ قيمة البناء تقاس بما يحقّقه من فائدة، فهذا لا يلغي أولويّة البعد الإبداعي لديه. بل إنّه أحد الذين حافظوا على روح الابتكار الدافئة وعن البعد الفنّي في عمله. إلى درجة اعتُبر أسطورة العمارة الحديثة. وهناك من عدَّه نحّاتاً لا معمارياً، خصوصاً نقاد ما بعد الحداثة الذين ينظرون غالباً بعين الريبة إلى فنّ العمارة!
وعلى رغم تأثير أستاذه السويسري لو كوربوزييه على أعماله المبكرة، مثل مباني وزارتي الصحة والتعليم في ريو دي جانيرو عام 1936، فإنّ موهبته الفذّة قادته إلى الخروج عن قواعد عصره. صار له نمطه الخاص والمميز بانحناءاته الخفيفة والأشكال المقتبسة من الدائرة، مع الاحتفاظ بمساحات طويلة تبعد الناظر عن الإحساس بالانغلاق، وتمنح شعوراً بوجود الموسيقى المعمارية الأنيقة المنسجمة مع طبيعة المكان.
وبوصفه مصمماً حراً وجريئاً، يمكن القول إنّ أهم إنجازات نيماير المعمارية تصميمه برازيليا عاصمة البرازيل الجديدة. إذ جعل من العمارة جزءاً مرئياً وحيّاً لثقافة المدينة الداخلية والخاصة، مع الاحتفاظ بالحق في التجديد والتحديث بأوسع أشكاله. وقد عدّ التصميم علامةً فارقةً في التاريخ العالمي للفن المعاصر. من قباب المجلس الوطني وأعمدة قصور ألفورادا وبلانالتو والمحكمة العليا، وحتى أعمدة أيتمارتي الشهيرة وساحاتها وكاتدرائيتها، يرى المعماريون أنّ «باني برازيليا الجديدة» نجح في «إغلاق المثلث»، وتجاوز المنظور السنتيمتري الذي يصوغه التكرار في المدينة، ليبتكر شكلاً جديداً يعبر حقاً عن روحها بجدتها وعراقتها في آن.
عند رؤية المدينة من الأعلى، يمكن مشاهدة مجموعة من العناصر التي تخلق وحدة الشكل بين بناياتها. وقد قيل إنّ نيماير ورفيقه في هذا العمل لوسيو كوستا اختبرا مفاهيم جديدة في تخطيط المدن. فما يميز تصميم برازيليا الذي استغرق أربعة أعوام، هو شكل بعض البنايات التي تبدو كأنّها تطفو على الأعمدة، وتسمح للفضاء أن يمر من تحتها... كأنها جزء من الطبيعة لا دخيلاً عليها.
بعد هذه التحفة الفنّية التي تحولت قصة تصميمها إلى فيلم فرنسي بعنوان «هذا الرجل من ريو» لفيليب دو بروكا، تم تنصيب نيماير رئيساً لكلية العمارة في جامعة برازيليا وعضو شرف في معهد العمارة الأميركي (1963) وحاز جائزة الاتحاد السوفياتي وجائزة «لينين» للسلام.
كان نيماير شريكاً لمعلّمه لوكوربوزييه في تصميم مبنى الأمم المتحدة في نيويورك. وهو أحد أهم المباني التي حملت الكثير من الدلالات الحديثة في عالم العمارة. وعلى رغم أنّ المبنى اكتمل عام 1953، لم يتمكّن نيماير من رؤيته إلا بعد عشرين عاماً لأنه لم يتمكن من الحصول على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة لأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي البرازيلي الذي تركه عام 1990 من دون أن يغيّر مواقفه السياسيّة.
في الخمسينيات، توالت أعماله وخرج من نطاق البرازيل وأميركا وصولًا إلى أوروبا فالعالم العربي. صمّم العديد من المباني الخاصة في إيطاليا، ومتحف كاركاس في فنزويلا، إضافة إلى جامعة قسطنطينة في الجزائر. هذه الأخيرة جاءت عبارة عن صرح مدهش، تجاوز جماليات البناء المحلية وأساليبها، أقامها نيماير على نطاق واسع من المساحات المفتوحة، واستعمل فيها عناصر جماليّة مختلفة مثل القباب وغيرها.
أما مقر الحزب الشيوعي في باريس، ساحة الكولونيل فابيان، فهو أحد أفضل أعمال نيماير وأحبها إلى قلبه. إذ عكس هذا المبنى مدى أهمية الحفاظ على العلاقة الهارمونية بين الحجم والمساحة المفتوحة. كان المعماري الشهير مقيماً في باريس آنذاك، بعدما أغلق النظام الديكتاتوري العسكري الجديد في البرازيل مكتبه عام 1966، ففهم نيماير أنّ وجوده لم يعد مرحّباً به في بلاده. ووجّه إليه مائتا أستاذ من زملائه، رسالة مفتوحة تطالبه بالاستقالة من منصبه في جامعة برازيليا.
لكن عجلة التاريخ دارت من جديد، فعاد نيماير إلى البرازيل في الثمانينيات، بعد 21 عاماً في المنفى. عندها صمّم «منحوتة أميركا اللاتينية» وتظهر يدي عيسى الناصري المجروحتين بعد صلبه، فيما تتألّف من نزفهما خريطة أميركا الوسطى والجنوبية. وأهّله هذا العمل عام 1988 للفوز بـ«جائزة بريتزكر للعمارة» مناصفةً مع الأميركي غوردون بونشافت.
وفي 1991، ابتكر أعظم أعماله، وهو متحف «نيتيروي للفن المعاصر» في البرازيل. يوحي بناؤه بأنّه منفصل عن الصخرة التي أقيم عليها والمطلة على ريو دي جانيرو، لكنّه يظهر مثل منحوتة تؤلّف جزءاً من الطبيعة المجاورة، وتسمح لشعاع المناطق الريفية المجاورة بالتداخل معها.
وعلى رغم تقدّمه في السنّ، فإن هذه الألفية شهدت نشاطاً نوعياً لنيماير، إذ بنى متحف «عين نيماير» في مدينة كورتيبا البرازيليّة. ثم صمّم غاليري «سيربانتين» في لندن، وتمثالاً للشيوعي كارلوس ماريغيلا، إضافة إلى المتحف الوطني والمكتبة الوطنية في البرازيل. وهو يعمل اليوم على تصميم تمثال يظهر نمراً فاغراً فمه في مواجهة رجل يرفع العلم الكوبي، ويرمز إلى الحصار الأميركي على كوبا.
في إحدى مقالاته، يقسّم نيماير مسيرته إلى خمس مراحل مختلفة: أعماله في مدينة بانبولا، ومن بانبولا إلى برازيليا، ثم أعماله في برازيليا، وبعدها انتقاله إلى خارج البلاد. وأخيراً أحدث مخططاته. فيقول «لم أعلّق يوماً على تأثير الأحداث الكبرى في العمارة، على زمنها، وعلى تفكيري بصفتي معمارياً. لكن حين أنظر إلى أعمالي اليوم، أفهم أفضل لماذا لم تخلُ أيّ مرحلة من عنصر الثورة».