حسين بن حمزة
• شاعر القصيدة الملموسة يواصل عبوره الخافت

صاحب الصوت الحميم الذي ينتمي إلى جيل خاص في الشعر السوري، يطلّ من بيروت بمجموعة تعيد الاعتبار إلى مشاغل الحبّ العادية. منعطف جديد لصاحب «آمال شاقة» الذي أدار ظهره منذ زمن إلى القضايا الكبرى، محتفياً باليومي والعابر، ومتخفّفاً من الغنائية. قراءة نقديّة لـ«من الصعب أن أبتكر صيفاً» (دار الريس)

في كل قصيدة من قصائد الشاعر السوري منذر مصري ثمة ما يشفي غليل قارئ شعر ذي ذائقة متطلّبة. ثمة شعر كثير وتفكير كثير بالشعر في كل صورة واستعارة وأحياناً في كل سطر بمفرده. العناية الفائقة من ممارسات منذر مصري المفضّلة. العناية، بمعناها الشامل الذي يعني أنّها لا تبدو عناية متكلّفة ومصطنعة، تتحول إلى نوع من فن شعري خاص وشخصي. إنّها عناية تذوب في القصائد ولا يعود في وسع القارئ، ولا الشاعر أيضاً، أن يفصل بينهما. لعلّ مجموعته الأخيرة «من الصعب أن أبتكر صيفاً» (دار رياض الريس) تقدّم خلاصةً مكثّفةً عن الكيفيات والمسالك التي قطعها هذا «الفن» الشعري حتّى وصل إلى صورته الراهنة.
اهتدى منذر مصري باكراً إلى نبرة شعرية وعالم شعري، بل قل ابتكر نبرته وعالمه. فالشاعر الذي تخلّى منذ البداية عن التعالي البلاغي والإيقاعات الصاخبة، الخارجية منها والداخلية، راح يربّي قصيدته على الإصغاء إلى شؤون وتفاصيل متناهية في الصغر. شؤون تليق بإنسان صغير وغفل وذائب بين أشباهه من المواطنين العاديين. قصيدة منذر شخصيّة، أو تروي سيرة أشخاص، لكنّها مكتوبة على قياس شخص عادي لا على صورة الشاعر بصفته قائداً ونبياً وصاحب رؤيا. وهي الصورة التي روّجت لها الحداثة الشعرية العربية طويلاً، قبل أن تنحسر هذه الصورة لدى الجيل اللاحق والأجيال التي تلته، مفسحةً المجال لأصوات شعرية خفيضة النبرة وباحثةً عن مناطق معجمية أخرى. وقد تبدّى ذلك في مساعٍ ومبادرات عدّة ذهبت إلى استثمار ما اتُفق لاحقاً على وصفه باليومي والعابر والطارئ. عالم الشارع والمقهى والحانة والوظيفة. عالم الملموس، المنقول بكاميرات وليس على منصات بلاغية مترفعة. عالم يُدير ظهره إلى القضايا الكبرى، وخصوصاً الأيديولوجية والنضالية منها، وحضورها الخطابي والسياسي التي تُطالب الشعر بوظائف مطلبيّة وجماهيرية مباشرة.
صاحب «آمال شاقة» كان في قلب هذا المنعطف. بعض أقرانه اشتغل على تجفيف البلاغة والتخلّص من العاطفة الزائدة والغنائية المفرطة لمصلحة قصيدة ذات لغة رائقة ومتلكئة وأكثر حياداً في مواجهة مضمونها. منذر مصري، مع آخرين، اختار ما هو منزوٍ ومهمل وخافت. ولهذا كانت مجموعته الشعرية الأولى صوتاً غريباً، بالكاد يمكن سماعه وسط الضوضاء الشعرية الدارجة. ويتضح ذلك منذ العنوان الذي كان يغرّد خارج جوقة العناوين التي كان مجرد قراءتها يُصدر ضجيجاً: «بشر وتواريخ وأمكنة» (1979).
الواقع أنّ منذر كان واحداً من شعراء آخرين راحوا يبدون الحساسية ذاتها في معاملة لغة القصيدة وبنيتها وعوالمها. في سوريا وحدها، كان هناك ما يمكن اعتباره جيلاً شعرياً كاملاً. نوري الجراح وعادل محمود ورياض الصالح الحسين، ثم انضمّ إليهم بندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش قادمين من قصيدة التفعيلة. هذا الجيل قدّمه نقدياً محمد جمال باروت في عمل مرجعي بعنوان «الشعر يكتب اسمه»، أطلق فيه مصطلح «القصيدة الشفوية». وراج المصطلح يومذاك، رغم اعتراض منذر الذي رأى أنّ الشعر هو الشعر، بغض النظر عن نوعيّة اللغة التي يُكتب بها.
لعل استعادة هذا الاعتراض توفّر مناسبةً للقول إنّ تجربة منذر مصري تتجاوز بكثير فكرة «اليومي» و«الشفوي». صحيح أنّ جزءاً كبيراً من ممارسته الشعرية قائم على كتابة قصيدة بالمواد المحسوبة على اليومي، لكنّه ينتشلها من نثريتها المفرطة ويُدخلها في سياقات متعددة ومختلفة. إنّه لا يكتب سطوراً متتالية بلا معنى في انتظار الضربة الأخيرة أو ما اتُفق على تسميته «القفلة» الشعرية. في أعمال منذر مصري يمكن العثور على قفلات عدة في القصيدة الواحدة، بل يمكن أن نجد صوراً مدهشة، أكثر من الخاتمة في أول القصيدة أو منتصفها وحتى في عنوانها. لقد فُهم خطأً أن القصيدة اليومية هي كتابة منجزة من دون عناية. وغفل كثيرون من شعراء هذا النوع أنّ تخلّي الشاعر عن كل الأسلحة التقليدية وغير التقليدية للشعر يجعل من إنجاز قصيدة أمراً غايةً في الصعوبة. مع ذلك، فإن كفّة ما هو مفرط في نثريته ونمطيته هي الأكثر تمثيلاً في المشهد الشعري العربي الراهن.
نعود إلى مجموعة الشاعر الأخيرة التي يكاد الحب أن يكون بطلها المطلق. يعيد منذر مصري الاعتبار إلى مشاغل الحب العادية. الممارسة الشعرية لا تحوِّل الحب إلى شيء آخر. قصيدة منذر لا تخجل من حوادث الحب التقليدية، سوى أنّها مكتوبة بحساسية مدهشة، كأن يقول: «حريصاً على أن ألامس/ طرف أحد أصابعك/ كلما أعطيتني شيئاً». أو «تُرى ... /هل سبب كَدَركِ/ أني أحضر/ زهوراً/ أكثر مما ينبغي»، ثم «ترشّين ملحاً فوق كل طعام/ يُوضع أمامك/ قبل أن تذوقي طعمه/ فما بالكِ بعد أن لحستِ جرحي/ واستغربتِ/ حلاوة/ دمي».
منذر مصري لا يكتب الشعر فقط بل يعيش كشاعر أيضاً.