strong>مؤلفون كثر تناولوا الميلاد عبر القرون، وصولاً إلى رموز العصر الحديث الذين وضعوا أعمالاً عصريّة، وحتى تجريبيّة أو طليعيّة. لكنّ الموسيقى ذات الطابع الديني التي تسمعونها هذه الأيام، بلغت أوجها مع باخ... أفكار ممكنة لهدايا العيد





بشير صفير

• ولادة عيسى الناصريّ ألهمت كبار المؤلّفين الغربيّين منذ القرون الوسطى

منذ القرون الوسطى، حتى بدايات عصر الباروك، ومطلع القرن السابع عشر، كوّن الحافز الديني العنصر الأبرز في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية. بل إنّ معظم الأعمال التي كُتبت في هذه الفترة كان لها بعدٌ ليتورجي. حتى تلك التي لم يدخل الكلام في تركيبتها، إذ إنّ معظم المقطوعات الآلاتية ــ القليلة نسبياً ـــ التي تركها مؤلفو تلك الحقبة، كانت تحمل عناوين ذات دلالة دينية. أما الأعمال التي كان النصّ الكلامي يمثِّل نواتها الأساسية، فكانت تستوحي مواضيعها من محطات مهمّة في حياة المسيح إجمالاً كولادته، أو من النصوص الإنجيلية من العهد الجديد، أي روايات الانجيليّين الأربعة، ومن العهد القديم والمزامير القديمة.
موسيقياً، لم تكن الأعمال التي كُتبت قبل المؤلف الألماني الكبير جان ـــــ سيبستيان باخ (1685ـــــ1750) تختزن قيمةً جماليةً كبيرة. وهي اليوم لا تمثِّل سوى قيمة تاريخية بفعل قدمها، وطابعها التأسيسي للمراحل الموسيقية اللاحقة، لذلك لا تحظى اليوم بالاهتمام الجماهيري.
مع باخ أو قبله بقليل، اتّجه المؤلفون الموسيقيون إلى الحوافز غير الدينية، كاستعمال النصوص التي تروي أحداثاً تاريخية أو أساطير قديمة في بدايات فنّ الأوبرا. كما اتجهوا إلى الموسيقى الآلاتية التي شهدت تطوّراً كبيراً في تلك الفترة على صعيد الشكل والمضمون. لكنّ ذلك لم يهمّش الموسيقى ذات الطابع الديني، بل بلغت أوجها مع باخ، وبدأت تتوارى تدريجاً بعده من دون أن تغيب تماماً حتى يومنا هذا.
أمّا الحدثان اللذان شكّلا مصدر الوحي الأساسي، فهما ولادة المسيح وموته، أي زمن الميلاد وزمن الآلام والقيامة. لكن يبقى ما تركه باخ من مؤلفات في هذا المجال، متربعاً عند قمّة الأعمال الموسيقية من دون منازع. «أوراتوريو الميلاد» هو أبرز عمل له، تناول زمن الميلاد وروى نصاً وموسيقى هذا الحدث التاريخي. يحتلّ «أوراتوريو الميلاد» الذي ألّفه باخ عام 1734 رأس قائمة الأعمال التي كُتبت للمناسبة على مرّ العصور. يُعدّ من أهم المؤلفات ذات الطابع الديني التي تركها المؤلف الألماني الكبير. وقد وضعه استناداً إلى إنجيلَي لوقا ومتّى وبعض الإضافات. هذا من ناحية النصّ، أمّا موسيقياً، فقد استند باخ إلى مؤلّفات كتبها قبل سنوات قليلة من ذلك، وأضاف إليها بعض المحطّات ليخرجَ بمؤلَّف موسيقي يتخطّى الساعتين.
القيمة الموسيقية التي يختزنها هذا العمل الضخم، جعلت منه موضع اهتمام كبار قادة الأوركسترا في القرن العشرين. وتتفاوت التسجيلات الصادرة لرائعة باخ هذه من حيث نجاحها، لكنّنا نتوقّف عند أداء The Monteverdi Choir وThe English Baroque Soloists بقيادة الإنكليزي جون إليوت غاردينر. هذا التسجيل، لا يزال يحظى بإجماع النقّاد، ولعلّه الأقرب إلى روح باخ بقيمته الفنيّة العالية. (تسجيل عام 1987 ـــــ شركة ARCHIV الألمانية). ومن الأعمال التاريخية في هذا المجال، نشير أيضاً إلى «قدّاس منتصف الليل» الشهير للمؤلف الفرنسي مارك ـــــ أنطوان شاربانتييه (1636ـــــ 1704)، والـ«غلوريا» للإيطالي أنطونيو فيفالدي (1678ـــــ1741) أحد أبرز رموز عصر الباروك.
أما أشهر عمل آلاتي (من دون كلام مُغنّى) يعود إلى تلك الفترة، فهو «كونشرتو غروسّو» (شكل من أشكال التأليف الموسيقى الذي اشتهر في القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر) للمؤلف الإيطالي أركنجيلو كوريلّي (1653ـــــ1713). هكذا، عرفت أوروبا مؤلفين كُثراً تناولوا الميلاد حتى القرن العشرين. وهناك أعمال ذات طابع عصري، وحتى تجريبي أو طليعي، وضعها بعض رموز الزمن الحديث: أبرزها «أغاني ميلادية» للمؤلف البريطاني بنيامين بريتن، إضافة إلى أعمال عدّة تناولت الميلاد من زوايا مختلفة للمتصوّف المسيحي ومؤسس المدرسة الطليعية في فرنسا أوليفييه ميسيان.
عند الكلام على الموسيقى وأعياد زمن الميلاد، لا يسعنا إلا التوقّف عند الحفلة السنويّة التي تقدّمها الأوركسترا الفلهارمونية لمدينة فيينا مطلع كل عام جديد المعروفة باسم «حفلة رأس السنة». هذه الأوركسترا العريقة التي تأسست عام 1842، وتُعَدُّ الأهمّ في العالم، تستضيف منذ عام 1939 قائد أوركسترا ليقودها في أداء أعمال المؤلفين النمساويين صباح الأول من كانون الثاني (يناير). هكذا، تكون حصة الأسد في البرنامج لآل شتراوس بدءاً من يوهان «الأب» (1804 ــــ 1849) مروراً بابنه البكر الذي تخطّاه في مجال كتابة المقطوعات الموسيقية ذات الطابع الاحتفالي الراقص (فالس، بولكا...) يوهان «الابن» (1825ــــ 1899) صاحب «الدانوب الأزرق الجميل» وصولاً إلى شقيقيه جوزيف وإدوارد شتراوس اللذين كانا دونه عبقرية وأقلّ إنتاجاً منه.
هذه الحفلة العريقة التي تقدّمها أوركسترا مدينة فيينا تقام في «الصالة الذهبية» حيث تُبثّ الحفلة مباشرةً عبر محطات التلفزة الفضائية اليوم، ويُقدَّر عدد الذي يتابعون الحدث في العالم بحوالى مليار شخص في 44 دولة. أمّا السابقة التاريخية في هذا التقليد، فكانت في حفلة 2006 حيث قدّمت الأوركسترا لأوّل مرة منذ 1939 مقطوعةً لملك المؤلفين في النمسا والعالم موزار، وهي افتتاحية أوبرا «زواج فيغارو» الشهيرة.
أمّا أبرز قادة أوركسترا «فيينا» في حفلة رأس السنة، فهم فيلي بوسكوفسكي الذي أحيا هذا التقليد منذ 1955 حتى 1979 من دون انقطاع. كما نذكر لورين مازل الذي قاد حفلة رأس السنة مرّات عدة، آخرها في عام 2005، والإيطالي كلاوديو أبادو (عامي 1988 و1991) والقائد النمساوي الكبير كارلوس كلايبر (من أصل أرجنتيني ــــ ألماني) الذي أحيا المناسبة عامي 1989 و1992 والياباني سيجي أوزاوا عام 2002. ولا ننسى الحفلة الاستثنائية والوحيدة التي حملت توقيع مايسترو القرن العشرين هربيرت فون كارايان في عام 1987، إضافة إلى قائد الأوركسترا الهندي زوبن ميهتا الذي قاد الحفلة مطلع 2007 لتكون المرّة الرابعة التي يُدعى فيها للقيام بهذه المهمة. تجدر الإشارة إلى أنّ ميهتا هو من أبرز الموسيقيين في عالم الموسيقى الكلاسيكية الممنوعة أسطواناتهم في لبنان، لأنّه يحمل الجنسية الإسرائيلية، وكان قد عُيِّن عام 1981 مديراً موسيقياً مدى الحياة للأوركسترا الفلهارمونية الإسرائيلية.
أما صباح كانون الثاني 2008، فسيكون للفرنسي جورج بريتر شرف إحياء حفلة رأس السنة، على رأس الأوركسترا العريقة لمدينة فيينا، لأول مرة في مسيرته الموسيقية. وككل سنة، عرض غلاف الأسطوانة التي ستحمل تسجيل هذه الحفلة، كما غلاف الـ DVD على شبكة الإنترنت، وستتولى الإنتاج شركة DECCA العالمية. أما تاريخ الإصدار فهو 18 كانون الثاني (يناير) 2008.
www.wienerphilharmoniker.at