رلى راشد
أقلّ من مئة متر تفصل نصب الهولوكوست في برلين عمّا كان في ما مضى “بونكر” أدولف هتلر إبّان الحرب العالمية الثانية، أي مقرّه الأخير قبل إقدامه على الانتحار.
النصب الذي أنشئ قبل سنتين يرمز إلى ندم الألمان على الفظائع التي ورثوها “جينيّاً” عن أجدادهم النازيّين، فيما بقي مقرّ هتلر حتى الأمس القريب، مساحةً افتراضيّة قد لا يوفّق كثيرون في تحديدها جغرافياً. لكن الأمور، على ما يبدو، بدأتبالتبدّل. وإذا استندنا إلى أحدث الإحصاءات السياحيّة الألمانية التي تفيد أن نصف الوافدين إلى العاصمة برلين قد أدرجوا مخبأ “الفوهرر” في جدول جولتهم السياحيّة.
الدافع الكامن وراء الاهتمام المُستجدّ بهتلر محيّر. قد يعزوه بعضهم إلى شفقة يستثيرها رجل طمح إلى إركاع العالم وانتهى به الأمر مُتوارياً عن الأنظار في دهاليز سفليّة، فيما يربطه آخرون بنجاح شريط أوليفر هيرشبيغيل السينمائي “السقوط”، الذي أنتج قبل سنتين. وقد استعاد الفيلم آخر 12 يوماً من حياة هتلر في مخبئه خلال معركة برلين كما ورد في كتاب المؤرّخ يواخيم فيست وفي مُذكّرات سكرتيرة الديكتاتور المُفضّلة تراودل يونغي التي دوّنتها حتى لحظة تسليم مُستخدِمها الروح.
كانت يونغي في عداد الفريق الطبّي والإداري الذي التحق بزعيم الرايخ الثالث في “فوهرربونكر” (أي “ملجأ القائد” بالألمانيّة) والذي ضمّ إيفا براون وآل غوبلز وأولادهما الستّة. وإلى الأمس القريب، رجّحت التخمينات وجود ركام مقرّ هتلر الثالث عشر (الذي سكنه بدءاً من كانون الثاني عام 1945) حيث تقوم اليوم بوابة براندنبورغ أو البرلمان الألماني “رايخستاغ” أو نصب الهولوكوست! وفي الواقع أن النسخ المختلفة لهذه “الأساطير” ليست غريبة تماماً عن الجغرافيا والحقيقة.
“يرقد” بونكر هتلر اليوم تحت موقف للسيارات تُطلّ عليه مجموعة مساكن شُيّدت في ظلّ الجمهورية الديموقراطية الألمانية.
عام 2000، اندفعت الجرافات لتنهش بقايا “بونكر” هتلر. كرّرت هذه الجرافات المحاولات التي بدأها الجنود الروس، ثم تلتها محاولات سلطات ألمانيا الشرقية الدؤوبة لطمر المقر مستعينة بأصابع الديناميت وأطنان من التراب. مضت حكومة ألمانيا الاتحاديّة بطقوس التشييع، ضاربةً بعرض الحائط مساعي جمعية “عوالم سفليّة” التي تنظّم جولات سياحيّة في برلين “تحت الأرض”. وقد دعت الجمعية إلى تعليق لوحة تذكاريّة في المكان الذي ضمّ المقرّ. وقد قوبلت أيضاً المحاولات الخجولة لجعله معلماً سياحيّاً بمقاومة شريحة واسعة من الألمان لا تزال تعيش “فوبيا” هتلر وتخشى التلفّظ باسمه أمام السيّاح فتشير إليه مُستخدمة تعبير “ذاك الشخص...”.
يُعشّش هتلر على ما يبدو في ذهن الألمان كما في ذهن يهود العالم. ويُروى أن الكاتب الإسرائيلي أوري أفنيري، إبّان الاجتياح الاسرائيلي للبنان، قد اغتاظ من تذكير رئيس الوزراء الإسرائيلي المستمرّ بالحرب العالمية الثانية وتشبيهه ياسر عرفات المعزول في بيروت بهتلر في “بونكر” برلين عام 1945. فما كان من أفنيري إلاّ أن بعث برسالة مفتوحة الى بيغن عنونها “سيدي رئيس الوزراء، إن هتلر قد مات” وربما ينبغي أن يقنع الألمان بذلك أيضاً.