يوسف الشايب
المسرح الاسرائيلي معروف بتميّزه الفني والتقني، بحكم مناهله الأوروبيّة أساساً، لكنّه أيضاً الإطار الأمثل لمحاكمة سياسة الاحتلال الصهيونيّة، كما يكشف المخرج شمعون ليفي في كتاب عرّبه الكاتب الفلسطيني سلمان ناطور

“لديّ أموات تحت الطاولات. البيت مليء بالأموات...” هذا ما قاله الكاتب والمخرج الإسرائيلي حانوخ ليفين في إحدى مسرحياته التي انتقد فيها “شهوة الموت” لدى حكّام “بلاده”. ليفين الذي توفي عام 1999، تُعد أعماله نقطة مفصلية في تاريخ المسرح الإسرائيلي، إذ شهد تحوّلاً من الالتزام “بقضايا الأمة” إلى مسرح نقدي لاذع.
يشير سلمان ناطور في مقدمة “المسرح الاسرائيلي... الأنا والآخر ومتاهة الواقع” لشمعون ليفي المخرج الإسرائيلي والمحاضر في قسم المسرح في جامعة تل أبيب، إلى أنّ حانوخ ليفين أسّس لهذا التحوّل في المسرح الإسرائيلي، حتى بات النقد الاجتماعي والسياسي لمفاهيم دينية واجتماعية وسياسية الأكثر انتشاراً في الأعمال المسرحية الإسرائيلية.
صياغة الوعي
يعود شمعون ليفي في كتابه الصادر أخيراً عن “المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية” في رام الله إلى أسباب تطوّر المسرح الإسرائيلي، ومنها غياب الرقابة على المسرحيات التي ألغيت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وتأثّره بأوروبا، ما تمخّض عن نصوص جريئة ولاذعة وبروز جيل من المسرحيين “يواصلون بثبات نهجاً مسرحياً تقدمياً”.
وفيما يؤكد ليفي أنّ الديانة اليهودية تحرّم الفن المسرحي لأنّه يكتنف مجاراةً لعملية الخلق، فإنّ سكان إسرائيل هم الرواد الأكثر للمسرح في العالم. وعلى رغم قلّة الدعم الحكومي للمسارح الإسرائيلية مقارنةً بأوروبا، ارتفعت نسبة الأعمال المقدّمة بالعبرية فيما خضع مدراء المسارح لرغبات الجمهور الذي يفضّل القصص الواقعية، ما أدى الى ارتفاع نسبة الأعمال المقدمة بالعبرية، حتى بات المسرح الإسرائيلي لا يسهم فقط في نقل الواقع، بل في صياغة الوعي بشكل أو بآخر.
يذهب شمعون ليفي الى رصد التحولات التاريخيّة التي شهدها المسرح الإسرائيلي. هكذا، يتناول أوّل مسرحية بعنوان “زرو بابل” لموشي ليف ليليبلوم، عرضت في القدس المحتلة عام 1890 وترجمها من الايديش إلى العبرية دافيد بالين. أضاف إليها المترجم حواراًَ بين شخصيات تريد الهجرة إلى فلسطين وأخرى تفضّل البقاء في بابل حيث الرفاه والحياة المزدهرة. مثّلت هذه المسرحية المرحلة الأولى من مسيرة المسرح العبري (1890ــــــ1914). وكان النشاط المسرحي يجري في المدارس والمستوطنات. وفي عام 1905، تأسست فرقة المسرح للهواة في يافا فيما شهد عام 1909 ولادة فرقة أخرى في القدس، وثالثة في بيتاح تكفا وسُميّت الفرق الثلاث “هواة المسرح العبري”.

الرقابة الذاتية
بعد ضعف الحركة المسرحية الإسرائيلية في الحرب العالمية الأولى، تجدّد نشاطها عام 1917 واستمرّ حتى ثلاثينيات القرن الماضي. شهدت تلك الفترة تقديم أعمال مستوحاة من التوراة واستمر التركيز على الهجرة إلى “أرض الأجداد في فلسطين”.
أما المرحلة التالية التي امتدّت حتى إعلان دولة إسرائيل عام 1948، فتميزت بتقديم مسرحيات عالمية كلاسيكية ومعاصرة، وأخرى ذات مواضيع يهودية تاريخية. ففي عام 1937، عرضت مسرحية “الحراس” التي تتناول أوضاع اليهود في فلسطين.
تغيّر دور المسرح العبري مع قيام الدولة الإسرائيلية. إذ لم يعد يلعب دور تعزيز شعور المهاجرين بالمكان واللغة، كما في السابق، بل راح يتناول موضوع الهوية الإسرائيلية في مراحل تبلورها والتوتر الشديد بين الأنا والمجتمع. وجاءت نتائج حرب عام 1967 لتشكّل منعطفاً مفصلياً في المجتمع الإسرائيلي. وتميّز النشاط المسرحي مذاك بالرد السريع والتسجيلي للواقع.
هكذا، بدأت المسرحيات التي تنتقد الحرب. عام 1968، قدّم ارييه زاكس مسرحية “السلام” لأرسطوفانس في عام 1968 واكتنفت انتقاداً حاداً للحرب. وجاء الرد العنيف في المسرحية الساخرة “أنت وأنا والحرب المقبلة” لحانوخ ليفين التي تنبذ الاحتلال والاستيطان وقمع الشعب الفلسطيني.
في عام 1970، أثار حانوخ ليفين بمسرحيته “ملكة الحمام” العاصفة الأكبر في تاريخ المسرح الإسرائيلي، ليقدم بعدها مسرحية “الغرض” التي تقوم فيها بطلة المسرحية فوغرة بتعذيب شخصيات متخيلة تمثّل طوائف وطبقات إسرائيلية، وتقوم على قتل المستأجر الفلسطيني. وفي عام 1972، منعت الرقابة الإسرائيلية مسرحية “أصدقاء يتحدثون عن يسوع” لعاموس كينان، فيما مارس مدراء المسارح نوعاً من المراقبة الذاتية على ما يقدمونه، حتى امتنعوا بشكل شبه كامل عن تقديم نصوص لاذعة من شأنها إثارة حفيظة الجمهور.
بعد اغتيال إسحق رابين، وفشل اتفاقات أوسلو، وبعدما أضيف إلى جمهور المسرح الإسرائيلي حوالى مليون مشاهد أتوا من دول الاتحاد السوفياتي السابق، نشأت مسارح جديدة أبرزها “غيشر” (الجسر)، وأسّسه مسرحيون من أصول سوفياتية، وراح المسرح يتحوّل تدريجاً إلى مسرح تجاري.
وفي الوقت الذي امتنعت فيه المؤسسات المسرحية الإسرائيلية عن تقديم أي عمل مسرحي يحتج بشكل أو بآخر على ما يحدث للفلسطينيين منذ الانتفاضة الثانية، ظهرت مسرحيات تنتقد السياسة الإسرائيلية. وفي إطار ما بات يعرف باسم “مسرح الضواحي”، كانت مسرحية “شيء ما انتهى بالرقص” لفرقة مسرحية بإشراف دودو معيان و“فاتورة النفس” لمؤلفها داني هوروفيتش، ما يؤكد أنّ المسرح السياسي لا يزال مؤثراً، رغم تحوّل المسرح الإسرائيلي إلى مسرح تجاري تدريجاً.