strong>بيار أبي صعب
  • رسالة (حكواتيّة) من زمن البرابرة

    “بوابة فاطمة” أكثر من مسرحيّة. إنه احتفال تراجيدي يستعيد العدوان الاسرائيلي الأخير من خلال نثار قصص وصور ومشاهد... يهرب روجيه عسّاف إلى فضاء الحكاية، ليصوغ رؤيته السوداويّة لعالم متصدّع، لشعب يبحث عن خلاص

    صدّق أو لا تصدّق: هناك إنتاج مسرحي حاليّاً في لبنان. أول من أمس قدّم روجيه عسّاف العرض الافتتاحي لمسرحيّته “بوابة فاطمة” على خشبة “دوار الشمس” في بيروت، وكانت قد أتيحت لبعض الجمهور فرصة مشاهدة صيغة أولى منها ــ بالفرنسيّة ــ في اطار تظاهرة فرنكوفونيّة خلال الخريف الماضي. ومساء الخميس المقبل، يطلق رفيق علي أحمد ــ شريك عسّاف السابق أيام “الحكواتي” ــ عرضه المونودرامي الجديد “جِرصة” في “مسرح مونو”. المسرح أداة مقاومة إذاً، في مواجهة التوتّر الأهلي والفوضى المدنيّة، لحظة غياب الثقة والشرعيّة ودولة المؤسسات؟
    ربّما. لكن تجربة روجيه عسّاف عامةً، لم تبلغ مراحل النضج، ونقاط التبلور والتحوّل والذروة، إلا في دوامة الأزمات وحالات التوتّر والحروب. من “محترف بيروت للمسرح” عشيّة النكسة مع “مجدلون” (1968) وغيرها... إلى “مسرح الحكواتي” في أتون الحرب الأهليّة اللبنانيّة والاجتياح الاسرائيلي الأول (1978) الذي تمحض عن “أيام الخيام” (1982)، كانت لحظة الشرخ أو الانهيار أو الصدمة هي دائماً المحرّك الابداعي والحافز الفنّي الذي يعطي للاحتفال المشهدي قيمته ومعناه، بالنسبة إلى هذا الفنان “الملتزم” الذي خرج، في ستينيات القرن الماضي، من عزلة الفرنكوفونيّة ونخبويّة الثقافة... إلى عناق الجماعة.
    روجيه عسّاف امتداد عربي (بتصرّف طبعاً!) لنظريّة غرامشي حول “المثقف العضوي”. يراه الباحث ميشال كورفان في الطبعة الجديدة من “قاموس المسرح” (منشورات “بورداس”، باريس ــ 2007) نموذجاً للفنان القادر على التجاوب مع “التساؤلات القلقة لشباب بعثرته الحواجز المذهبيّة والفئويّة، وبات على خلاف عميق مع مجتمع التصادمات المشلّع، المحاصر دائماً بين حربين”. وقد أنتج عمله الجديد “بوابة فاطمة” (مع حنان الحاج علي، ياسمينة طوبيا) في ظروف استثنائية: بين العدوان الاسرائيلي على لبنان (تموز/ يوليو 2006) والضغط الفرنكوفوني بالابقاء على ذلك الموعد العتيد (المسرح مدينة مفتوحة) الذي مرّ على بيروت مرور الكرام، خلال الخريف الماضي.
    “نشأ المسرح في الحرب ــ يكتب عسّاف في الكرّاس المرافق للعرض ــ وتكوّن في خضمّ تأزيم النظام المدني، أي عندما كان الاقتتال يهدّد مصير الوطن. من أسخيلوس إلى إدوارد بوند، لم تهجر الحرب الحيّز المسرحي...”. وخلال الحرب الأخيرة، نبتت البذرة الأولى لعمله الجديد، ولم يكن أحد يعرف كيف ستتطوّر الأمور آنذاك. لم يكن أحد يفكّر أساساً في المسرح: كان الهمّ الوحيد مقاومة الهمجيّة، والتمسّك بالحياة. تحت القنابل الاسرائيليّة وجّه عسّاف، مع صحبه في جماعة “شمس”، رسالة إلى مثقفين ومبدعين من معارفهم وأصدقائهم، ما لبثت أن لفّت العالم. وتلتها مجموعة رسائل أخذت تظهر دورياً تحت عنوان مشترك: “نحن بخير، طمئنونا عنكم”. أثارت النداءات المكابِرة تلك، ردود فعل كثيرة ومتنوّعة: من حملات الاستنكار على العدوان والتضامن مع ضحاياه في مسارح فرنسا مثلاً، إلى الرسائل العدائية التي راحت تدافع عن اسرائيل “ضحيّة الارهاب”، من تل أبيب ونيويورك...
    وحين قرّر عسّاف أن يلبس مجدداً ثياب “الحكواتي”، ليروي بعض القصص الجارحة من زمن الحرب، كان من الطبيعي أن يوظف تلك الرسائل والردود وينسج انطلاقاً منها مشاهد احتفاله. لا جديد على المستوى الفنّي في “بوابة فاطمة”، بل ربّما كانت الخيبة تترصّد الجزء الأكثر تطلّباً من الجمهور. اللغة ذاتها: تواتر السرد والتمثيل على منوال تغريبي، شخصيات مؤسلبة هدفها تحقيق صدمة الوعي لدى المتفرّج. روجيه في دوره المعهود يخاطبنا أو يتعمّد اللجوء إلى أسلوبه “الميكانيكي” في الاداء، وحنان الحاج علي في جلد الحاجة التي تندب وتلطم وتولول، وياسمينة طوبيا في دور “الممثلة الثانية” التي تجسّد الوجه المناقض لحنان: في مقابل الحجاب واللباس التقليدي هناك الجسد الحرّ الذي يقترب من العري: من حركاته ومفرداته تنبعث اباحيّة خافتة، في مقابل اللهجة الجنوبيّة هناك الانكليزيّة والفرنسيّة باللكنة الأصليّة، وفي مقابل غضب المواطِنة المُعتدى عليها هناك غطرسة المنطق الآخر المتعالي الذي يدّعي الحضارة والبراءة وحبّ الحياة (!) ويريد “القضاء على الارهاب” (الله معنا يكتب إيروين غروليتش من نيويورك!).
    لكن لمسرحيّة “بوابة فاطمة” مزايا أخرى. إضافة إلى كونها تعيد الصلة بالفرجة الشعبيّة، يمكن اعتبارها صرخة ألم أولاً، ورسالة إلى العالم من زمن البرابرة. روجيه عسّاف يريد أن يشهد، من خلال فنّه، ويوظِّف مختلف الأدوات التي يتقنها منذ عقود. الراوي يبدأ بقصّة افتراضيّة لأصل اسم “بوابة فاطمة” الشهيرة في كفركلا عند الحدود مع فلسطين المحتلّة (من هنا عبرت فاطمة بحثاً عن أمها زينب أوائل السبعينيات)... ثم تتوالد القصص والشخصيات على خلفيّة الوطن الذي نهشته القذائف. المصوّر الذي عشق زينب (ابنة فاطمة) وتزوّجت غيره، يعبر “دروب لبنان صيف 2006” بحثاً عن الحكايات. الرجل الذي يحتضَر تحت ركام منزله مع هاتفه الجوّال في عيترون، الست وردة صديقة السلاحف البحريّة التي لن تأتي هذا العام الى شاطئ صور، بسبب الحرب، لتعطيها أخباراً عن ابنها الذي ابتلعه البحر، ضحيّة العنف والضياع في “فردوس” بيروت، المرأة التي فقدت حنكها وضحكتها... وصولاً إلى بوابة فاطمة الجديدة في بحاريص. فاطمة جواد كانت خارج البلد حين تهدّم منزلها وابتلع الركام عائلتها. لم يبق إلا الباب، دخلته عندما عادت، وجلست إلى الحجارة، وبكل جديّة راح أهل القرية يدلفون منه لتعزيتها...
    قصص غير مترابطة، إلا في مشروع الراوي الساعي إلى لملمة “شظايا وطن”. الاخراج البسيط والعملي يعمد إلى “الفانوس السحري”، أي شاشة الفيديو التي تتناسب مع تقنيات السرد. تارةً تتوالى عليها صور القرى والمدن المدمّرة، وطوراً تشرّع على الاختبارات الرقميّة فتتغيّر ألوان السماء المقلوبة إلى الاحمرار مع احتضار المواطن العيتروني. وفي أحيان أخرى تكتسي مناخات “روائية” مقلقة لترافق قصّة الجامعيّة التي غرر بها أستاذها، أو المومس التي يحرقها عشيقها الميليشيوي.
    تخرج من العرض تلفّك الحيرة. تستعيد مشهد حنان الواقفة في الظلمة، تضبط انفعالاتها وتشد على أعصابها، فينبعث صوتها هادئاً من الأعماق. إنها كاساندرا المعاصرة في لحظة تراجيديّة كثيفة. تخاطب الغزاة تلعنهم وتنذرهم بالشؤم: “... تطلعوا فيي، حطوا عيونكم بعينيّ (...) رح يجي يوم نسوانكم تحكي بلا لسان وتعلك بلا اسنان، رجالكم رح تهرّ جلودها وتورّم زنودها، رح تتناتشوا متل كلاب الكلبانة على نقطة مي، وتاكلوا لحم الحي كرمال شوية أوكسيجين، رح تذبحوا بعضكم البعض وتخلصوا حشرات مسحوقة بمكناتكم الحربية واختراعاتكم الجهنمية (...) رح تنحرموا شوفة القمر والنجوم، وتعيشوا مقبورين وتموتوا وإنتو طيبين”. لقد أنهكك جمع المشاهد المبعثرة، واستعادة وقائع العدوان، وعينك على الراهن السياسي العبثي الذي ليس إلا امتداداً لعدوان تموز. بلغ روجيه عساف غايته إذاً، ولم يعد أمامك سوى انتظار المسرحيّة (الحرب؟) المقبلة.

  • مسرح “دوّار الشمس” ــ الطيّونة، بيروت
    01.381290