خليل صويلح
صوت مستبدّ، ترك آثاره تحفر عميقاً في الوجدان العربي، في رحلة شخصية ملتبسة، تمتزج فيها حياة عاشتها بمكابدات لا تحصى، ونشوة أسطورة تعانق ما هو مقدس... هي «كوكب الشرق». وحين تضع قدميها على الأرض، فهي «ثومة» وحسب.
لم تعد المسألة تتعلق بصوت أم كلثوم، بل بتاريخ كامل من المنعطفات وأرشيف أسطوري يضعها خارج الدائرة. كانت ذكوريتها جزءاً من سطوة صوتها، إلى درجة توارت فيها الأنوثة إلى منطقة سرية مبهمة، خاصة بها وحدها. هكذا تزاوج كاتبة سيرتها نعمات فؤاد بين الشخصي والعام، لتربط خيط الواقع وصدى الآهات بمنديل أسطوري. منديلها الذي ظلّ أدوات عبقريتها وخصوصيتها. رحلتها من الأدوار والموشحات إلى الطرب الخالص، من حفلات أعراس الذوات إلى أرقى مسارح العالم... كل ذلك يتطلب نصاً نقدياً، يواكب سطوة الشخصية الاستثنائية. وهي كذلك حقاً. ألم تحرث زمن الملك فاروق وتخترق جدران قصره، في قصة حب ملتهبة مع شريف صبري (خال الملك)، انتهت برفض الملك لهذا الحب؟ وحين أحبت شخصاً من عامّة الشعب هو الملحن محمود الشريف، تدخّل الملك ثانيةً وأحبط الزواج. ذلك أنّ قدرها أن تكون ملكاً لمصر كلها مثل الأهرامات. وستكون رفيقة وحدة جمال عبد الناصر في حصاره المشهور، في أحد المعسكرات الحدودية. عندما تسلّم الحكم، كانت هي أحد عناصر ثورة الضباط الأحرار، في الذائقة الفنية لهؤلاء الاشتراكيين. أمّ كلثوم وحدها من يجمع التناقضات: الذكورة والأنوثة، الدنيوي والمقدس... وستصبح ليلة الخميس من أول كل شهر موعداً مقدساً في زمن الراديو، لتطوى صفحة الفونغراف الذي لم يكن متوافراً للعوام. صوت الراديو عبر الأثير وحده يحقق نشوة الاستماع الجماعي، في ديموقراطية غير مسبوقة. صور الأرشيف التلفزيوني لحفلاتها، بالأبيض والأسود، تكشف عن حنين لأسطورة تتماهى في أرواح جمهورها مثل وشم لا يمحى.
لكن أمّ كلثوم لعنة مثل آلهة الأساطير القديمة. ألم تحطم فؤاد محمد القصبجي وأحمد رامي؟ لنتذكر أسطورة «رق الحبيب»: كان القصبجي يحبها بصمت، وعندما كادت تتزوج شريف صبري، كان القصبجي يجوب الشوارع يحمل بين أضلاعه قلباً محطماً. وحين تعبت قدماه، طرق بابها ليستعلم منها حقيقة الأمر. فيما كان أحمد رامي يعيش عذاباً آخر. سينتظر «قصب» في الصالون، ويسمع أم كلثوم تقول لخادمتها إنها غير موجودة، حتى لو طلبها الملك فاروق. لكنها فجأة تطل من غرفتها، وتطلب من القصبجي أن يلحقها إلى المكتب، كي يلحن قصيدة رامي «رق الحبيب». خلال أربع ساعات ينهي تلحين القصيدة، فيما تُشفى أم كلثوم من صدمتها بالغناء، على حساب ضحاياها في الحب. وستدخل «رق الحبيب» في أرشيف أعذب أغاني أم كلثوم.
قبل خمس سنوات تسبّبت «رق الحبيب» بمقتل شابة متزوجة في ريف دمشق. إذ انتبه أشقاؤها أنها تستمع في غياب زوجها إلى أغاني أم كلثوم، ما أثار شكوكهم في شرفها فذبحوها لدفن العار. ألهمت الحكاية المخرج محمد ملص في شريط بعنوان «مقام المسرة»، على خلفية أغاني أم كلثوم، من «شمس الأصيل» إلى «رق الحبيب». كأن أم كلثوم نصّ عصيّ على التفسير، يحتاج إلى أن يُكتب كل مرة بصيغة مختلفة.