strong> بشير صفير
  • يوم أسمعَتْ «السمفونية التاسعة» من به صممُ

    الفيلم الذي يتناول مرحلة حاسمة من حياة بيتهوفن يقدّم فرصة ثمينة لإعادة الاستماع إلى مقاطع كاملة من موسيقى المؤلف الألماني الكبير. لكن ماذا بقي من الحياة الحقيقيّة لصاحب «السمفونية التاسعة» في شريط المخرجة البولونيّة أغيشكا هولند؟

    ككلّ شخصية تركت أثراً ما في تاريخ البشرية، شكّلت حياة المؤلف الموسيقي الألماني لودفيغ فان بيتهوفن (1770ــ 1827) ــ شأنها في ذلك شأن موسيقاه ــ مادةً دسمةً ألهمت العديد من الفنانين والأدباء، وحتى العلماء. وبالطبع، كان للفنّ السابع حصّته أيضاً من تلك المسيرة الإنسانيّة والإبداعيّة الصاخبة.
    هكذا، ظهرت أفلام وثائقية عدة، آخرها أنتج العام الماضي بعنوان “السمفونية التاسعة” للمخرج الفرنسي بيار ــ هنري سالفاتي. وتميّز هذا الفيلم بإبداع فني عال، أعطى تلك السمفونية حقّها. وبين الأفلام التي استعادت مراحل من حياة بيتهوفن، مستندةً إلى النصوص التاريخية والأخبار المتوارثة منذ وفاة المؤلف، نشير إلى العملين الأكثر شهرة من ضمن لائحة طويلة: «الحبيبة الخالدة» من إخراج برنارد روز (Immortal Beloved ــ 1994) و«نَسْخ بيتهوفن» من إخراج أغيشكا هولند (Copying Beethoven ــ 2006).
    وإذا كان الممثل الإنكليزي غاري أولدمان قد نجح في تجسيد شخصية المؤلف الفريدة، في الفيلم الأول، ببراعة استثنائية، فإن زميله الأميركي أد هاريس لم يوفّق تماماً في رفع التحدّي في «نَسْخ بيتهوفن». يتناول شريط أغيشكا هولند المرحلة الأخيرة من حياة المؤلف الألماني الكبير، أي بين العامين 1824 و1827. وبما أنه لا يمكن اختصار حياة لودفيغ فان بيتهوفن كلّها في ساعتين، فقد عمد كل من المخرجين إلى اختيار محور أساسي من تلك الحياة، تدور حوله مواضيع جانبية أخرى. ارتكز فيلم «الحبيبة الخالدة» على رسالة حب بعثها المؤلف عام 1802 إلى امرأة مجهولة. وُجدت هذه الرسالة بين أوراقه بعد وفاته، فشكّلت موضوع بحث مضنٍ لأول كتّاب سيرته، المؤرخ أنطون شيندلر الذي أراد الكشف عن هوية الحبيبة الخالدة. وساد الاعتقاد حينذاك بأن تلك المرأة المجهولة قد تكون تيريز فون برونسفيك، إحدى عاشقات بيتهوفن. أما الدراسات الحديثة، فترجّح أنّ الرسالة هي لشقيقتها جوزفين.
    ويتطرّق Immortal Beloved، من الناحية الموسيقية، إلى أعمال مشهورة للمؤلف، كالكونشيرتو الخامس للبيانو والأوركسترا، وسوناتات البيانو المعروفة... وركّز على السمفونية التاسعة التي يصعب غض الطرف عنها في فيلم مماثل، إذ إنّها من أهم الأعمال التي كتبها بيتهوفن، بينما كان غارقاً في صممه الكلي الذي بدأت بوادره عام 1799، وكاد يؤدي إلى انتحاره في عام 1802 بعدما كتب وصيته الشهيرة المعروفة باسم «وصية هايليفنشتات» (على اسم منطقة صارت اليوم جزءاً من فيينا).
    أما «نَسْخ بيتهوفن»، فربّما كانت ميزته الأساسيّة في الحيّز الواسع الذي يكرّسه لسماع الموسيقى نفسها... يدور الفيلم الذي يمزج بين معطيات تاريخيّة وأخرى متخيّلة، حول علاقة خاصة وغريبة نشأت بين المؤلف وموسيقية شابة في الثالثة والعشرين تدعى آنا هولتس (ديان كروغر). تلك الشابة الموهوبة التي جاءت إلى فيينا لدراسة الموسيقى، وأقامت في الدير تحت رعاية عمّتها الراهبة (ورقابتها)، يرسلها أستاذها إلى بيتهوفن الذي طلب أكثر التلامذة تفوّقاً لمساعدته على نسخ السمفونيّة التاسعة، خلال وضعها ــ تحت الضغط ــ أياماً قليلة قبل موعد عزفها في حضرة الأرشيدوق ونخبة من مؤلفي ذلك العصر المحتشدين في العاصمة النمساويّة. الصبيّة الموهوبة إلى درجة تصحيح بعض أخطاء بيتهوفن خلال التأليف، تنقضّ على تلك الفرصة الذهبيّة، وتتحمّل فظاظة المعلّم ونزقه وسعيره، على أمل أن تطلعه على مؤلفاتها الموسيقيّة. وهذه العلاقة بين المؤلف الألماني والطالبة لا تلبث أن تتحوّل إلى حب بريء ومتبادل لا تخلو من القسوة والعدائية من جهة بيتهوفن الذي كان معروفاًً باحتقار النساء.
    إلا أنّ تلك العلاقة التي أرادتها المخرجة البولونيّة أغيشكا هولند العمود الفقري للفيلم من الناحية الدرامية، جاءت بمثابة أكسسوار، أو تفصيل هامشي... فيما بدت الموسيقى الهدف الرئيسي الذي تبتغيه. وقد يكون التركيز على الموسيقى أكثر من الشكل الدرامي والعناصر الفنية الأخرى، أوقع «نَسْخ بيتهوفن» في مغالطات (أو مقاربات) تاريخية وضعف في الحبكة الدرامية.
    إن نسخ السمفونية التاسعة عشيّة تقديمها للمرة الأولى في فيينا، أنجزه طالبا موسيقى نمساويان لا امرأة. ولم يغيّر الناسخان نوطة واحدة في مخطوط المعلّم الذي كان صارماً في هذا المجال. وفي سياق الفيلم، يرد عن لسان بيتهوفن كلمة Moonlight sonata (سوناتة ضوء القمر)، في إشارة إلى سوناتة البيانو رقم 14. في حين أنّ هذا الاسم أطلقه الشاعر والناقد الموسيقي هاينريش ريلشتاب على تلك السوناتة بعد عشر سنوات من وفاة المؤلف، أي بعد 36 سنة من تأليفها!
    والأهم أنّ بيتهوفن بدأ يفقد سمعه عام 1799، وتؤكد الدراسات التاريخية أنّ المؤلف صار أصمَّ، تمام الصمم، منذ عام 1817. في حين أنّ بيتهوفن يسمع في الفيلم، ولو بشكل ضعيف، ويستطيع تمييز الكلام إذا أصدره محدثه مواجهاً له وبنبرة عالية. إن تحوير الواقع هنا قد يلطّف الظلم والمأساة والحسرة التي عاناها بيتهوفن، لكنّه يقلّل من أهميته وأهمية الأعمال التي كتبها في السنوات الأخيرة من حياته. كما بدا المؤلف في الفيلم ميالاً إلى المزاح النافر، ضارباً عرض الحائط بضوابط الرصانة، وهي ميزة لم تكن موجودة إطلاقاً عنده... بل عند موزار وبشكل أكثر تطرّفاً.
    وهنا، لا بد من طرح سؤال أخير. لماذا موّه الفيلم رأي بيتهوفن في موضوع الكفر والإلحاد؟ هو الذي نَهَرَ الكاهن الذي دُعي إلى فراشه لـ«مَشحه»، وامتنع عن الاعتراف بخطاياه لأخذ البركة الأخيرة، قبل دقائق من مفارقته الحياة. أليس ذلك الموقف بمثابة وصية تقضي الأمانة باحترامها، مؤمنين كنّا أو ملحدين؟ إلا أنّ للضرورات الدراميّة (والتسويقيّة) أحكامها! ما يعيد طرح السؤال الأبدي: إلى أي مدى يمكن أن نعترف للسيناريو بحرية التساهل مع الحقيقة التاريخيّة، في مثل هذه الحالات؟
    في النهاية، ما قد يجعلنا نغفل عن كل هذه المغالطات التاريخية والضعف الدرامي للفيلم أنّ القصّة جاءت بمثابة القالب فقط للفيلم... لمصلحة العنصر الموسيقي الذي كان الغالب.

    «نَسْخ بيتهوفن» ــ إخراج أغيشكا هولند ــ حالياً في صالات أمبير