القاهرة ــ محمد خير
بعد أشهر من الرفض الذي تعرض له فيلم تهاني راشد “البنات دول”، عاد الفيلم التسجيلي الطويل (68 دقيقة) ليفرض نفسه على الرأي العام، بعدما تفجّرت في القاهرة أخيراً مأساة عصابة “التوربيني” التي يتزعمها شاب في السادسة والعشرين. هذه العصابة التي اغتصبت وقتلت أكثر من ثلاثين من أطفال الشوارع خلال سبع سنوات. والمفارقة أن أفراد العصابة هم أنفسهم من أطفال الشوارع. هكذا، اندفعت الكاميرات فجأة لتحكي عن حياة أولئك الذين ألقاهم المجتمع لحماً طرياً على الرصيف، فإذا بهم يتوزّعون بين وحوش وضحايا... تعيش بيننا: في الشوارع، أسفل الجسور، في مدخل الكاراجات، وأحياناً في أقسام الشرطة وإصلاحيات الأحداث، ينتشرون كالنمل في كل مكان. لكن نرفض رؤيتهم غالباً. وحين حاولت تهاني راشد أن تكشف لنا هذه الحقيقة السافرة التي نتعامى عنها، كانت الصدمة التي جاء عنوانها “البنات دول”.
تهاني راشد مخرجة مصرية تعيش في كندا منذ 30 سنة، ولها عشرة أفلام تسجيلية أشهرها فيلم “أربع نساء من مصر” (1997) و“فتاة من فلسطين” (2004). اعتادت تهاني رصد حراك المجتمعات العربية من خلال قصص نساء أو فتيات تنتقيهن بدقة وتبذل معهن مجهوداً خارقاً من دون أن يؤثر ذلك في تلقائية العمل. في “البنات دول”، ترصد السينمائيّة حياة ست مشردات، يعشن في شوارع حي المهندسين الراقي: مريم ورضا وعبير ودنيا وإيمان وتوتة، كل منهن هربت من منزلها نتيجة القسوة والفقر، أو أبصرت النور في ملجأ لا تعرف أماً أو أباً. تشترك البنات في شيء واحد هو الأمل. كل منهن يمتلك إرادة الحياة، ويرغب في غد أفضل، على الرغم من التحرشات الجنسية والاعتداءات من كلّ الأنواع. حتى إن أحداهن قصّرت شعرها تماماً، وارتدت ملابس رجالية (هي أقرب إلى الأسمال في الواقع)، كي تعطي انطباعاً بأنها صبي. ولم يكن الأمر صعباً قياساً إلى ظروف حياتها التي تقضي بضراوة على أي أنوثة. ومع ذلك، فإن إحدى أولئك البنات حامل، لكنها لا تعرف من هو والد الجنين، ولا تهتم كثيراً لأن ذلك لن يغيّر في وضعها. هي التي لا تعرف أين ستبيت غداً، أو أين سيبيت الشباب المشردون الذين لا بدّ من أن يكون الأب المفترض ضمن دائرتهم.
وفي المقابل تصوّر الكاميرا سيدة تقليدية محجّبة تتعاطف مع البنات، وتحاول قدر الإمكان نصحهن. لكنّ الاستجابة لنصائح أبلة هند تبدو صعبة في هذا العالم السفلي، المليء باللصوص والمجرمين والمخدرات الرخيصة، كما تكتشفه فاعلة الخير يوماً بعد آخر...
أما تهاني راشد، فعاشت مع البنات أربعة أشهر قبل أن تبدأ الفيلم. ثم استغرق التصوير مدة مماثلة. خلال تلك الفترة، تعرفت المخرجة بأبسط تفاصيل حياة أولئك الفتيات، وعاينت مشاكلهن، وتابعت دخولهن إلى السجن وخروجهن منه. هكذا، لمست مدى صعوبة استخراج شهادة ميلاد لطفل مجهول النسب، والغياب الكامل للدولة... اللهمّ إلا من خلال هجمات البوليس القاسية ويد القانون الباردة.
الفيلم الذي أنتجه “ستديو مصر” العريق، عُرض في “مهرجان كان”، ومنحه مهرجان الإسماعيلية للأفلام الروائية والتسجيلية القصيرة جائزة أفضل فيلم، وآخر عروضه كانت في مهرجان دبي. لكن كل ذلك لم يكفِ لحمايته من حملات التجريح. وقد لاحقته الاتهامات الجاهزة من “النظرة السوداوية” وصولاً إلى “تشويه سمعة مصر”! وكان غريباً أن يعترض بعضهم على “الألفاظ البذيئة” التي وردت على ألسنة الفتيات في الفيلم، وهي الألفاظ نفسها التي يسمعها هؤلاء المعترضون في الشارع كل يوم. ذلك أنّ هناك من يتصور أنّ السينما النظيفة يمكنها أن تنظف المجتمع من “البنات دول”.