نور خالد
أسدلت هالة سرحان أمس الستار على سلسلة «السينما والناس» التي خصصت لفتيات الليل. لكن الحلقات الأربع التي أثارت غضب المتشددين، لم تأت بأي جديد. البرامج الاجتماعية بين شهوات المشاهد و...متطلبات المعلن

ما زلن يمارسن المهنة الأقدم في التاريخ، وسيبقين كذلك حتى نهايته. ولا تزال برامج التلفزيون العربية “تجترّ” قصصهن كأنهن خارج التاريخ والجغرافيا... هنّ فتيات الهوى، وهو أيضاً تلفزيون “الهوى”!
توهم برامج الـ“توك شو” أولئك الفتيات بأنها “تتواطؤ” معهن ضدّ المجتمع الذي أوقعهن في “وحل الخطيئة”. تطلب منهن أن يحكين عن اللحظات الحرجة... تصور الأمر كأنها قادرة على تغيير نظرة النبذ تجاههن. تسألهن عن كل شيء: تخلّي الأهل عنهن، برد الشارع والحضن الدافئ في أول “الرحلة” (ثم سرعان ما يتبين أنه شائك وشرير)، وحقنة المورفين الأولى وفض البكارة، وجريمة القتل الأولى. يجد مقدمو البرامج تلذذاً خاصاً في نبش واسترداد المرات الأولى، فقد تعلموا، بالتجربة والبرهان، أنها قادرة على استدرار كل من: دموع الفتيات، عاطفة الجمهور، وأموال المعلنين.
هل يكون الواقع في مكان آخر؟ وهل تتواطأ البرامج مع المشاهد على الفتيات؟ قد يستحق الأمر النقاش. فكرة الاستغلال التلفزيوني “الهوائي” لقصص “فتيات الهوى” يدعمها غياب أخلاقي واضح عن التلفزيون، وتقصير دوره المفترض، في خلق ثقافة جماهيرية واعية وناضجة من شأنها المساهمة في حماية تلك الفئة، من القهر المتواصل الذي تمارسه مجتمعاتنا على النفس، قبل الجسد و“العرض”.
كم برنامجاً تلفزيونياً ظهر على شاشاتنا العربية مثل “أي 4” البريطاني الذي يتوخى تسليط الضوء على مسائل التربية الجنسية والنظرة إلى الجسد؟ وكم “بي بي سي 3” لدينا لكي تثير موضوعات عن صناعة الأفلام الإباحية، وتأثير مواقع الإنترنت الإباحية على علاقة الشباب بأجسادهم والنظرة إلى الأم والأب، والنموذج الجمالي، والصحة الجنسية النفسية؟
وأخيراً كم “بائعة هوى” قابل معدو برنامج “السينما والناس”، قبل أن تتفجع هالة سرحان في الحلقات الأربع التي بثّتها “روتانا سينما” (بدءاً من مساء السبت حتى أمس)، على مصير فتيات حضرن في الاستوديو ليحكين عن “طريق الضلال والانحراف”؟ معدو برنامج “جنس في المدينة” sex on the street على القناة البريطانية الرابعة قابلوا 110 “بائعات هوى”، لتقديم حلقة واحدة، خرجت بإحصاء علمي يدين تقصير الجهات الأمنية في حماية الفتيات من التعرض لحوادث الضرب والاغتصاب... هناك قوانين في الغرب تدين اغتصاب فتيات الهوى، وذلك حقّ يرفضه مجتمعنا. الجسد لا حق له، وإذا انتهك مرة، فمن الأجدى أن ينتهك كل مرة. لكن شاشتنا لا تهوى مخاصمة جمهورها عن طريق صدمه بحقيقة تقصيره. هي، على العكس، تلبي ذائقة سادية ملتبسة وغير ناضجة لديه، تتمثل بإبداء الشفقة تجاه “ضحايا” منبوذات، يعشن في أمكنة “غريبة” وظروف “أغرب”، لا تمت بصلة إلى الأمان والدفء الذي ينعم بهما المشاهد في بيته “الشريف”. هنا، وعلى عكس ما توهم به، تتواطأ الشاشة مع المشاهد “البريء” ضد “الضحية” (إن جاز لنا الوصف) عبر حشوه بمشاعر تثبت رقيه ودونية “الآخرين”.
وفي لعبة خفية، تتحوّل البرامج التي تتناول فتيات الهوى إلى ما يشبه حالة تلك الفتيات أنفسهن. التلفزيون يبيع والفتاة تبيع: إنها شهوة الغواية لدى الاثنين. كلاهما “ضحية” ما يطلبه الجمهور، ما يرضيه ويلبي غرائزه. التلفاز يلبّي غريزة التلصص والمشاهدة. “البائعة” تتجاوز ذلك إلى الحسي والمادي. هي تغري زبونها وترضي “قوادها”، والتلفزيون يغري مشاهده ويرضي المعلن. في شق ثالث من اللعبة، يتم التواطؤ الخفي بين الفتاة والشاشة، بشكل اتفاق غير معلن بينهما، على إرضاء الجمهور. ولأن التلفزيون الطرف الأقوى في المعادلة ــ لكونه مرغوباً من الملايين، فيما هي منبوذة منهم (ومرغوبة سراً) ــ يستطيع، بدهاء كامل، أن “يبيع” الفتاة التي وثقت به، وبشكل علني هذه المرة، متلطياً تحت غطاء السذاجة.
صوّرت هالة سرحان السلسلة قبل أشهر، وبدأ الإعلان عنها منذ أوائل شهر أيلول (سبتمبر) الماضي. وقد أطلقت بعض الجماعات المحافظة حملة شعواء عليها، وعمل بعضهم على توقيع عريضة أرسلت إلى إدارة “روتانا”، مطالبين فيها بـ“وضع حدّ لجرأة هالة سرحان”. ورأى هؤلاء أن ما تقدمه لا يفيد المجتمع، وأن “حديث فتيات الليل عن مدخولهن الباهظ، قد يغري أخريات ويشجعهن على خوض التجربة”. ولم تطل الفتيات على الشاشة، إلا عندما نسي هؤلاء القصة، وهدأت الحملة على المقدمة المصرية. خلال هذه الحلقات تردد سرحان، معلّقة على شهادات الفتيات: “يا عيني، يا بنتي... يا خبر... يا حرام”، ثم تنفعل، كي تسأل، خارج التاريخ والجغرافيا: “مين الي بيجيب المخدرات في مصر؟”. وهكذا، مرّت السلسلة التي استضافت الفنانتين دلال عبد العزيز وصفاء جلال، وتحدثت عن غياب الرقابة وحضور فتاة الهوى في السينما العربية، وإهمال الأهل، من دون أن تقدم أي جديد يذكر.
منذ أن قدم زياد نجيم، قبل أكثر من عقد، في “الشاطر يحكي” “البائعات” مموهات بلطشة سوداء، تخفي وجه “الخطيئة”... وبعدما قدمت نضال الأحمدية، قبل عقد أيضاً، على قناة “سيغما تسعين” المتوقفة اليوم، قصص الفتيات في “الخط الأحمر”، وقد تم تخشين أصواتهن تمويهاً وهروباً أيضاً من “صوت الخطيئة”... لا يزال “الديكور” ذاته مستخدماً إلى اليوم، لدى اعتلاء الفتيات مسرح “التوك شو”. هل هناك طريقة أكثر ابتكاراً وجدية ونبلاً في حماية الفتيات، خلافاً لاكسسوارات التخفي التي تضيف أجواء التشويق والإثارة؟ قد تكمن الإجابة في التحرر من الكليشيهات، ثم البحث عن البعد الأعمق، والمسؤولية الفردية والاجتماعية والقانونية، والتورط السياسي للفاسدين والمتسترين والمتدثرين في كثير من القضايا. بالتأكيد هناك الكثير الذي يتجاوز ما تعرضه شاشاتنا عن الجني الأحمر الذي اغتصب فتاة فطلقها زوجها، والطفل الذي اعتدى عليه حارس البناء فأصبح مثلياً...

من السبت إلى الثلاثاء عند الثامنة مساء على “روتانا سينما”