يمكن الحديث عن غربة مُضاعفة يعيشها الكتاب المغربي، المكتوب باللغة العربية بشكل خاص. غربة تساهم فيها الأمية أولاً. إذ كيف يتوقع المرء رواجاً لـ“منتج”، نصف المجتمع غير معنيّ به، ولا قدرة له على “استهلاكه” أصلاً. هو لا يستشعربضرورته ولا بالحاجة إليه. حتى الأجيال الشابة التي نفترض أنها لا تعاني من مشكلة الأمية، لأنها قادرة على القراءة بأكثر من لغة وتتعامل يومياً مع الكومبيوتر والإنترنت والتكنولوجيا الحديثة، فهي مع الأسف ترعرعت في منازل لا تتوافر فيها مكتبات، ولم تترَبَّ على تقاليد القراءة واقتناء الكتب. كما إنّ غربة الكتاب مضاعفة أيضاً. إذ لا تتوافر دور نشر جدّية قادرة على الانخراط في شراكات فكرية وأدبية عميقة مع الكتاب. تحوّل أغلب الناشرين إلى ما يشبه “شناقة” عيد الأضحى. يتعاملون مع الجميع بمنطق عدد الصفحات وعدد النسخ، ويخرجون آلاتهم الحاسبة ليخضعوا الكتب المسكينة ومؤلفيها لعمليات الضرب والجمع والطرح. ولأن مثل هذا السلوك يختزل الكتاب إلى مجرد حزمة من الأوراق المشدودة بعضها إلى بعض، فإن العديد من المؤلفين فضّلوا تجاوز هذا الناشر الذي صار بالنسبة إليهم مجرد عائق يوسع هامش خساراتهم المادية، فيما يطبعونه على نفقتهم. لذا انتشرت في المغرب ظاهرة “الكاتب الناشر” الذي يذهب إلى المطبعة مباشرة، يطبع ألف نسخة يضعها بنفسه في بعض الأكشاك والمكتبات ويركن الباقي في سيارته ليوزعه على الأهل والأصدقاء. حتى إنّ الكتاب تحوّل إلى مجرد “كارت دو فيزيت” يقدّمه الكاتب للناس في اللقاءات العامة.
أما المؤسسات المعنية بدعم الكتاب فتبدو حتى الآن عاجزة عن تطويق هذه الأزمة. لنأخذ مشاريع وزارة الثقافة المغربية مثلاً: هي جاءت بأفكار ممتازة، لكنها لم تحقّق الأهداف المرجوة منها بسبب معضلة التوزيع. سلسلة “الكتاب الأول” مثلاً التي تنشر للأدباء الشباب، وسلسلة “الأعمال الكاملة” التي جعلت أدباء الأجيال الجديدة يطّلعون على الأعمال الكاملة لعدد من الرواد، وسلسلة قصص الأطفال التي ماتت في المهد مع الأسف... كل هذه مشاريع رائدة فعلاً. لكن يكفي أن نعرف أن هذه الكتب ليست موزعة، ومفقودة تماماً من الأسواق. حتى إن أصحابها يجدون صعوبة في العثور عليها، لتكتشف أن هذه الأفكار الجميلة لم تنجح في دعم الكاتب والكتاب بسبب اختلالاتٍ طالت التنفيذ. وتبقى المؤسسات المشتغلة في مجال الكتاب، عامة وخاصة، مطالبة بأن تختار بجدية الأعمال التي تنشرها وتهيئ لهذا الغرض لجان قراءة حقيقية: جادة ومهنية وذات صدقية، وأن تتعامل بجدية أيضاً مع معضلة التوزيع. فالتوزيع عنصر أساسي. وما لم نضمن توزيعاً معقولاً للكتاب، فإن كل حديث عن عدم انتشاره أو عزوف القارئ عنه يبقى مصادرة على المطلوب.
وأخيراً، فإن للإعلام دوراً أساسياً لا يخفى على أحد. لكن الأصل في المغرب هو تخلي الإعلام عن الكتاب. وهذه معضلة أخرى. نحن في بلد يعاني الأمية والعزوف عن القراءة وكل هذه الأمور. لكن بدل أن نوظّف الإعلام في معركتنا ضد تجاهل الكتاب وتهميشه، نمارس المزيد من الطرد للكِتاب ومبدعه من جنة الإعلام. وهذا يضاعف طبعاً من غربة الكاتب والكتاب. وطبعاً من سيهتم بإصلاح هذه الاختلالات؟ هناك لحظة واحدة نشعر فيها في هذا البلد بأن الكتاب يمكن أن يحتل فعلاً دائرة الضوء ثقافياً وإعلامياً. إنها لحظة “معرض الدار البيضاء الدولي للكتاب” التي بدأت تنظم باحترافية جعلت الكِتاب المغربي يمارس “نجوميته” ولو لبضعة أيام. لكن تلك اللحظة ستبقى بالتأكيد غير كافية ما لم تسندها “احتفالات” أخرى جهوية ومحلية. وبالمناسبة، فوزارة الثقافة كانت قد فكرت فعلاً في المعارض الجهوية كآلية يمكنها أن تسهم في ترويج الكتاب خارج مدار الرباط/ الدار البيضاء. لكن يبدو أن الوزارة، بعدما أعادت ترتيب أولوياتها، وضعت المهرجانات الفنية على رأس سلم الأولويات، فيما ظلت المعارض الجهوية آلية مؤجلة، ومعطلةً، حتى الآن.
إن “صناعة” الكتاب، وهو المفهوم الرائج هذه الأيام، لا تعني فقط الطباعة والنشر، بل تعني أيضاً وأساساً التوزيع والترويج والإعلان والإعلام. وما لم توضع مقاربة شمولية تتعامل مع الكتاب وترعاه منذ المطبعة حتى الصحيفة والتلفزيون، فإننا سنبقى بعيدين عن تملُّك أسرار هذه الصناعة، وبالتالي سيبقى كل حديث عن الكتاب مجرد تذكير بغربته.