برلين ــ الأخبار
  • القضايا الاجتماعية محرّك السينما الألمانيّة الجديدة؟

    «مهرجان برلين السينمائي الدولي» لا يطلق رهانات خطرة هذا العام، بل يكتفي بالأسماء المعروفة، والتجارب المضمونة، والمواضيع الجذّابة: المخابرات الأميركيّة حسب دي نيرو، ومانديلا في عيون سجّانه... و«إرينا بالم» ترنو إلى «الدبّ الذهبي»

    هواة السينما في العالم باتوا يعرفون منذ سنوات، مثل أهل الفنّ السابع على اختلاف مشاريعم وأجيالهم ودرجات شهرتهم، أن مهرجان برلين من أهمّ مواعيد السينما الأوروبيّة والعالميّة. المهرجان الألماني الذي يُعرف بالـ«برليناري»، يزاحم زميله الإيطالي في «البندقيّة» (فينيسيا) قطعاً، ويوجّه إلى «كان» الفرنسي أشهر التظاهرات وأقدمها، نظرة تحدّ واثقة. ولعل نقطة القوّة، ومجال التمايز الأساسي في برلين، هو الجرأة... وحسّ المغامرة الذي تكاد تفتقر إليه سائر المهرجانات المكرّسة. مهرجان برلين يراهن غالباً على أسماء مغمورة، أو على أفلام غير مضمونة النجاح بسبب خيارات أسلوبيّة طليعيّة، هكذا اكتشف العالم جان لوك غودار عشية ولادة «الموجة الفرنسيّة الجديدة» (1960) وبعدئذ بسنوات الكوري الجنوبي كيم كي ــ دوك (2004)... من هنا الأسف على الغياب التام للعالم العربي، باستثناء الممثلة هيام عبّاس (راجع البرواز أدناه)، التي تشارك في أعمال لجنة التحكيم الدوليّة التي يرأسها الأميركي بول شرادر مخرج «أميركان جيغولو» وسيناريست «سائق التاكسي». وحدها إذاً في مدينة فاسبندر، تعيد الاعتبار إلى زملائها العرب الغائبين كلياً عن الصالات الخمسين التي تعرض أفلام المهرجان، داخل المسابقة وخارجها.
    لكن «مهرجان برلين» في دورته السابعة والخمسين (8-18 من الشهر الجاري)، لا يغامر كما عوّدنا بمفاجآت جديدة وتجارب شابة، بل يستكين إلى الأسماء الكبيرة، مفسحاً الحيّز الأكبر لسينما المؤلف التي تعاني مختلف أشكال الحصار أمام الوحش الهوليوودي الزاحف. جاك ريفيت («لا تلمسوا الفأس» مقتبس عن الكاتب الفرنسي بلزاك) وأندريه تيشيني («الشهود» عن اكتشاف العالم لآفة الإيدز 1980) وفرنسوا أوزون («ملاك») من فرنسا، الأميركي سام غاربارسكي صاحب «جنس أكاذيب وفيديو» («إرينا بالم»)، البلجيكي ستيفن سودربيرغ («الألماني الطيّب»)، وغيرهم. وتتميّز البرمجة هذا العام بمشاركة كثيفة من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، وتبدو ثيمة الحرب وثيمة المرأة من القواسم المشتركة بين تجارب عدّة...
    لم يكن مستغرباً والحالة هذه أن يُفتتح المهرجان بفيلم أوليفييه دهان La Môme الذي يتناول سيرة المغنية الفرنسيّة إديث بياف وظروف حياتها الصعبة. وكما افتتحت فرنسا المهرجان، تختتمه في 18 الجاري مع Angel لفرنسوا أوزون، عن امرأة تنجح في تسلّق الهرم الاجتماعي في بريطانيا مطلع عشرينيات القرن المنصرم.
    ويتألّف المهرجان من ستة أقسام هي: المسابقة الرسمية، بانوراما، مسابقة الأفلام القصيرة، مهرجان سينما الطفل، مسابقة الفيلم الألماني، المنتدى، يشارك فيها أكثر من 400 فيلم، بينها 26 شريطاً من 19 دولة تتنافس، داخل المسابقة الرسميّة، على الدب الذهبي والدبّ الفضي...
    من بريطانيا، يطالعنا المخرج ريتشارد آير بـ «ملاحظات على فضيحة»، وهي كوميديا سوداء تتناول قصة معلّمة (كايت بلانشيت) تقيم علاقة غرامية مع تلميذها. القصة مقتبسة عن رواية لزو هيلر وصلت الى نهائيات جائزة «مان بوكر» عام 2003. إنها قصة الوحدة والغيرة والحب والعزلة. وفي فيلم المخرج الألماني كريستين بيتزولد «يلا»، تهرب امرأة من زيجة فاشلة إلى ألمانيا الغربية و«تناضل» من أجل حياة أفضل تماماً مثل بطلة الفيلم الصيني «زواج تويا» للمخرج وانغ كونان، فهي تقرر الزواج بأي رجل يتعهّد الاعتناء بزوجها المُقعد. فيما يدور «إرينا بالم» للبلجيكي سام غاربارسكي حول شخصيّة أرملة تعمل في نادٍ جنسي مقابل جمع المال الضروري لإجراء عملية زرع عظم لحفيدها. ومن المتوقّع أن تكون الممثلة البريطانيّة ماريان فايتفول هي حدث المهرجان في دور تلك الأرملة...
    الأفلام السياسية
    السياسة حاضرة بقوّة في هذه الدورة، من خلال شخصيات بارزة أو بلدان تعاني النزف والحروب. لا نعرف إذا كان الإسرائيلي جوزيف سيدار يتخذ موقفاً نقدياً من حكومته ومؤسسته العسكريّة الفاجرة في فيلم “بوفور” الذي لم نشاهده بعد، لكنّه في كلّ الأحوال يضع إصبعه بشكل من الأشكال على الجرح في مجتمعه كما يبدو. يحكي الفيلم معاناة الوحدة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة التي بقيت متمركزة في الجنوب قبل انسحاب قوات الـ «تساهال» من لبنان (2000). ويحكي عن سقوط أسطورة «الجيش الذي لا يقهر»، كما يمثّل اعترافاً بعبثية الاحتلال... ومما لا شك فيه أن تلك المقاربة تكتسب بعداً إضافياً اليوم، بعد الهزيمة المدوّية التي لحقت بـ «تساهال» في لبنان خلال تموز / يوليو 2006. وحصن بوفور الشهير هو هنا مجاز عن قلعة الشقيف، بعد سقوط حصن جباليا في أيدي المقاومين. يختصر سيدار الذي اختبر هذه الأجواء خلال خدمته العسكريّة، أن الفيلم «قصة مقاتلين مذعورين مستعدين للنجاة بحياتهم، بدلاً من الموت في سبيل مبدأ الصمود». ويعكس «بوفور» تحوّلاً عميقاً في نظرة المجتمع الإسرائيلي إلى «الجيش الذي كان ينظر إلى ممارساته الدموية على أنها دفاع عن النفس». كل ذلك طبعاً قبل صيف 2006 في لبنان!
    ويتناول ساو هامبرغر الديكتاتوريّة في البرازيل في شريط بعنوان: «العام الذي ذهب فيه والداي في إجازة»... من خلال قصة مرو البالغ 12 سنة الذي يكبر في برازيل السبعينيات، ويضطر أهله فجأة إلى الذهاب في عطلة خلال حكم الديكتاتورية ثم يُمنعون من العودة. أما المخرج زانغ لو، صاحب «رمل في الأذن» الذي يتناول الفروق الاجتماعية الطبقية والاقتصادية والجندرية في الصين الحديثة، فيعود في «حلم صحراوي» (إنتاج كوري فرنسي) ليرصد حياة قرية يهدّدها الجفاف على الحدود بين الصين ومُنغوليا، من خلال معاناة امرأة هربت من كوريا الشمالية.
    وأثنى النقاد كثيراً على فيلم بيلي أوغست «وداعاً بافانا» الذي يروي قصّة حقيقية بطلها جيمس غريغوري (جوزف فينس) الحارس الأبيض ــ أيام حكم التمييز العنصري في بريتوريا ــ لزنزانة الزعيم الجنوب أفريقي نلسون مانديلا (دينيس هايسبرت). تنشأ بين الزعيم الأسود وسجّانه صداقة على مرّ السنوات، دوّنها جيمس غريغوري في رواية بعنوان «نلسون مانديلا، سجيني وصديقي» التي اقتبس عنها الفيلم.
    ومن الأفلام الأخرى المنتظرة في برلين، «الراعي الصالح» من إخراج روبرت دي نيرو، الذي يوثّق لولادة «وكالة الاستخبارات المركزية الأميركيّة» بطريقة خيالية. والممثل الأميركي الذي يقف وراء الكاميرا هنا للمرّة الثانية، يتقاسم البطولة مع الثنائي أنجلينا جولي ومات دامون. ولا بدّ من الإشارة إلى «الألماني الطيّب»، وهو فيلم بالأبيض والأسود أراده ستيفن سودربيرغ تحيّة إلى السينما الهوليوديّة في أربعينيات القرن الماضي (جورج كلوني، كات بلانشيت). يصوّر الفيلم حكايات ملتبسة في خلال الحقبة النازية، وهي الفترة ذاتها التي يقاربها «المزوّرون» للنمساوي ستيفان روزويتسكي.
    وبعيداً من الحرب، بدا لافتاً هذا العام اهتمام المخرجين الشباب الألمان بقضايا اجتماعية وتفاصيل يومية عن هموم الإنسان الألماني. وبرهن هؤلاء عن حسّ رفيع بالدراما ونضج في عناصر أفلامهم. إذ جاءت قوية ومتماسكة، ترصد تفاصيل الحياة الألمانية وحكاياتها. صوّروا الظروف الاجتماعية والاقتصادية كالهجرة مثلاً، ورصدوها بعيداً عن الكليشيهات السائدة، فعكست مشكلات سياسية واجتماعية تقضّ راهنهم. ففي فيلمها «زيركوس» للألمانية أستريد شولت، نرى طفل الثمانية أعوام مجبراً على إعالة ذويه.
    وفي قسم «بانوراما»، يُعرض 16 فيلماً في «خاص بانوراما» و17 في «بانوراما الأفلام الوثائقية». ويلاحظ من خلال الأفلام المدرجة، وجود تركيز كبير من المخرجين على ثيمة الهوية والانتقال الى مرحلة النضج. فيما يتنافس في مسابقة الأفلام القصيرة 16 فيلماً من 12 دولة، تنوّعت فيها المواضيع. ويهدف هذا القسم الى عكس التنوع الكامل للأشكال السينمائية، فنرى في «الفتاة التي ابتلعت النحل» (أوستراليا) للمخرج بول ماتك ديرموت قصة الحزن الذي تشعر به فتاة، فيما ترسم الهولندية دايا كاهين شخصية حفيد جوزيف ستالين الذي أمضى حياته محاولاً أن يعكس صورة ستالين والانخراط في الشأن العام في فيلم “ستالين الذي لعبتُ دوره”. ويبدو أن صناعة الأفلام القصيرة بدأت تزدهر بفضل التسجيل الرقمي وتقنيات التوزيع، إضافة الى إقبال الجمهور الألماني على هذا النوع من الأفلام.