باريس ــ بسّام الطيارة
منذ مدة يصعب تحديدها اختفت سجائر “غولواز” ذات الغلاف الأزرق عن مائدات الحانات والمقاهي الفرنسية. وغابت لفافات سجائر “ماييس” الصفراء من أصابع الكتّاب والصحافيين في مقاهي الحي اللاتيني في باريس، ولم تعد تتبادر إلى المسامع في الشوارع والمحال بحّات أصوات خشنة لنساء تعوّدن تدخين سجائر “جيتان” ذات النكهة الخاصة جداً.
أشياء كثيرة زالت وتغيرت في فرنسا ما عدا طباع الفرنسيين المتفاخرة. كثيراً ما شهدت الحانات جدالات بين المدخنين وغير المدخنين وكانت كلها تنتهي بصرخة المدخن في وجه من يتأفف من سحاب الدخان قائلاً: “لسنا في أميركا... ما زلنا في فرنسا، والتدخين هنا من دعائم حريتنا!”.
حتى هذه الصورة التي يُشبّه عبرها الفرنسي بالـ“ديك” هي في طريقها إلى الزوال. فبعد سنوات من التردد أقرت الحكومة قانون “منع التدخين بتاتاً في كل الأماكن العامة وفي مراكز العمل”، وبدأ تطبيق القانون قبل نحو أسبوعين، وقد تعجب البعض “من السهولة التي مرّ بها القانون ومن التزام الفرنسيين به من دون تأفف ولا... ثورة”.
متسكّع في جادة “سان جيرمان” في وسط باريس التي اشتهرت بمقاه يرتادها كبار الكتّاب والفنانين، وقف ليقول “تم منع التدخين من دون أن يتحرك الفرنسيون! لن أتعجب إذا تم منع الخبز من دون أن يثير الأمر ضجة في مجتمعنا”، يتلفّت يميناً ويساراً ويتابع “انظر، هل هذا هو السان جيرمان؟ أين المقاهي، أين المكتبات؟”، يتنهد ثم يقول “بالله قل لي ماذا يفعل الناس بكل هذه الملبوسات؟”.
يلخص المتسكع ــ على طريقته ــ التغيير الذي أصاب باريس بشكل عام والمناطق التاريخية فيها بشكل خاص. فقد اختفت من الحي اللاتيني المكتبات والمقاهي التي كانت وراء شهرة “حي النخب والمثقفين”، وانتقلت دور النشر إلى الضواحي تاركة المحال التاريخية لمحال الماركات الكبرى العالمية والشهيرة المتخصصة ببيع الألبسة والأكسسوارات والمجوهرات والأحذية. أما المطاعم الصغيرة التي كان يرتادها الكتّاب وأساتذة الجامعات والطلبة لتناول “وجبات الصحن اليومي” مع إبريق النبيذ على الطاولة المغطاة بشراشف ذات مربعات حمراء وبيضاء، فقد اختفت أيضاً واحتلت مراكزها محال الوجبات السريعة الفرنسية. فالحكومات الفرنسية المتعاقبة أخضعت أذونات فتح محال الوجبات السريعة الأميركية لقوانين متشددة جداً، ما منعها من الانتشار كما هي الحال في الدول الأخرى.
تغيُّر عادات الاستهلاك في مجال الأطعمة ترك تأثيراً مباشراً في عادات استهلاك ما يحيط بالمأكل أي المشروبات والتدخين بشكل مباشر. فرويداً رويداً تختفي الحانات “براسوري” (Brasserie) التي كانت تقدم، إلى جانب المشروبات، المأكولات، والتي كانت تفتح أبوابها طوال الليل. ومعها تختفي مقاهي الأرصفة. وساهم تغيير عادات الاستهلاك في المقاهي في تسهيل مرور قوانين منع التدخين الجديدة، وتغيير عادات العمل وسوق العمل. فمن المعروف أن فرنسا مرت في أزمة بطالة منذ خمس عشرة سنة جعلت من الحصول على عمل دائم أحد أكبر اهتمامات الأجيال المتخرجة من الجامعات والمدارس المهنية. وبالتالي فإن قوة ضغط النقابات وتأثيرها تراجعا بشدة، ما جعل فرض قواعد التزام عدم التدخين أسهل داخل المؤسسات الخاصة منذ حوالى عشر سنوات.
ويجب الاعتراف أيضاً بأن الدولة الفرنسية تقوم ــ منذ عشر سنوات تقريباً ــ بحملات إعلانية وإعلامية تذكّر بأضرار التدخين وبنسبة ضحاياه المرتفعة (٥٢ ألف سنوياً)، وهي منذ خمس سنوات بدأت تركز على أضرار “التدخين غير المباشر”.
منذ أول شباط دخل قانون منع التدخين في الأماكن العامة والمؤسسات حيز التنفيذ... إلا في الحانات والمطاعم! فقد أُعطيت هذه الأماكن مهلة سنة لتسوية أوضاعها. ذلك أن المشرع الفرنسي لم ينس أن “اقتصاد المطاعم والمقاهي هو أحد أهم مكونات الناتج الوطني”، والمقصود، في هذا الإطار، المطاعم الفرنسية الكلاسيكية التي تجذب سنوياً ٦ ملايين سائح وحوالى ٥ ملايين فرنسي أو مقيم على الأراضي الفرنسية. وهي مطاعم من الدرجة الأولى والثانية مستقلة أو داخل فنادق فخمة تتجاوز فاتورة وجبة الطعام فيها لشخص واحد حوالى ٢٥٠ دولاراً من دون المشروبات. وقد طُرحت “تسوية خاصة” تستطيع بموجبها المطاعم أن تجهز أماكن خاصة للمدخنين لا تتجاوز مساحتها ٢٠ في المئة من مساحة المطعم، وتُجهز بآلات “شفط الدخان”، ولا يدخلها أي نادل أو عامل لخدمة الزبائن. وبما أن الدستور الفرنسي يحظر التمييز بين الأفراد فقد استفادت المطاعم الصغيرة من هذه التسوية.



حي المثقفين هل يذكر رواده؟
لو عاد جان بول سارتر إلى الحياة وأحب أن يدخن سيجارة في مقهاه المفضل “لي دو ماغو” على ناصية “سان جيرمان دو بري” فهو لن يستطيع فعل ذلك. فقد تحول المقهى إلى “مقهى من دون تنباك”، وكذلك الأمر في “كافي فلور” الذي نسي مارغريت دوراس ورائحة تبغها وباتت مقاهي الحي كلها “أماكن سياحية” يرتادها أميركيون ويابانيون إلى جانب سياح أوروبا الشرقية الذين يدخرون أشهراً لشرب شوكولا في مقهى شهير، وينظرون عبر الزجاج إلى متسكع فرنسي يدخن في الهواء الطلق البارد وعيناه تبحثان عن كاتب معروف ليقدم له سيجارة أخرى.
من غاب عن الحي سنوات أو عقوداً قد تخذله مخيلته، فثمة نمط تغير فيه، وسيخذل الحي مخيلة من حفظوه أو تخيلوه من خلال ما قرأوه في رواية سهيل إدريس “الحي اللاتيني”. وقد يبدو للبعض مختلفاً عما ظهر عليه في أفلام قديمة.
وجهة عشاق الثقافة هكذا حفظه محبو باريس، إذ كانوا يشعرون بحاجة إلى فسحات مماثلة في مدنهم، إلى أحياء تزدهر بمكتباتها وتنمو على أرصفتها مقاه تحتضن المثقفين الكبار وجدالاتهم ونقاشاتهم.
تغيرت باريس أو هو قانون الحياة الذي تغير.