رلى راشد
بابلو بيكاسو، مسرحيّ الشهوانية والسوريالية. ليس في الأمر خطأ في التوصيف. ربما أغفلت الموسوعات الإشارة إلى بيكاسو الكاتب، لكنه سبق لابن ملقة والمرحلة الزرقاء أن هجر محترفه ومسند الرسم ليستحيل كاتباً مَسرحيّاً.
انتفاضة بيكاسو المرحليّة على طقوس الألوان لم تشفِ غليله، بل آثر أن يُذكر بعد رحيله كالآتي: “بابلو رويث بيكاسو، شاعر وكاتب مسرحيّ إسباني. نجد في سجله أيضاً بضع لوحات!” حظّ بيكاسو عاثر فعلاً، لن يسعنا تحقيق أمنيته ولجم انبهارنا بـ“غرنيكا” و“آنسات افينيون” و“لاس مينيناس”، كما تخيّلها بعد مواطنه فيلاسكيس. جلّ ما نستطيعه هو إعادة اكتشاف “الرغبة الممسوكة من الذيل” أحد عمليه المسرحيين الذي يجوب للمرّة الأولى إسبانيا وينتقل من مسرح كانوفاس في مالاغا إلى غرانادا ومدن أندلسيّة أخرى بعد مروره بنيويورك وسان تروبي والشاشة الصغيرة.
لكن جمهور بيكاسو المسرحيّ الأول، كان حفنة من أصدقائه ضمّت في آذار 1944 دورا مار وجورج باتاي وجاك لاكان وسارتر وكامو ودوبوفوار. تحلّقوا يومذاك حوله في منزل لويز وميشال ليريس الباريسي، ليشاهدوا إطلالته السوريالية على الرغبة، وليكتشفوا نصّاً كتبه قبل ثلاثة أعوام وتناول فيه، للمفارقة، مُثقفين (يصفهم بـ“قمامة” مجتمعهم) لاذوا بالفرار إلى مدينة بورغوس إبّان الحرب العالمية الثانية. لم ترشح سوى تفاصيل قليلة عن تلك الأمسية الباريسية: ميشال ليريس يلبس جلد شخصيّة “القدم الكبيرة”، الممثلة زاني كامبان تتسَلّل إلى ملامح شخصيّة “لاتارت”، وبيكاسو يضع على المدفأة صورة فوتوغرافية للشاعر ماكس جاكوب، الذي قضى في معتقل درانسي.
بعد مرور أكثر من ستة عقود على كتابة هذا العمل المتهكّم والثوري، لا يزال صعباً نقله إلى الخشبة، وهذا ما أقرّ به خوان دولوريس كاباييرو مسؤول فرقة “مسرح فيلادور” التي تعرض العمل في إسبانيا. لا يتّبع عمل بيكاسو خيطاً نلحق به أو نقطة ارتكاز نبدأ منها، هو سلسلة مشاهد متواترة تشبه خيال بيكاسو الخصب. أراد كاباييرو، كما يقول، توضيح ما كتبه بيكاسو لكي لا يخرج الجمهور مهرولاً من القاعة. فبيكاسو في هذا العمل سجين رغباته، يحاول من خلالها، ذهنياً، تخطي المحظورات الماديّة التي فرضها النازيون في باريس المحتلة. تستسلم شخصيّات بيكاسو إلى مُتعة الأكل والشرب وممارسة الجنس في لعبة فرديّة وجماعيّة، لكنها لعبة تتحسّس قتامة الوضع. وفيما لا يمكن تعريف الشخصيات بدءاً من بنيتها النفسيّة لأنها موظّفة كأدوات للرغبة، لا تبتعد عنها كثيراً عقدة أوديب، وهو الموضوع الرائج في أوساط السورياليين. أوديب هو صنو بيكاسو الذي يرى أنه (في الفن) على كل امرئ قتل أبيه. وفي هذا الإطار، ليس مجانيّاً حضور “القدم الكبرى” الذي اشتقّ اسمه من اسم اوديب الذي يعني باليونانية القديمة “أقدام متورّمة”. “الرغبة الممسوكة من الذيل” عمل فطريّ لا يرتكز على إعداد مسبق، تماماً كما هي لوحات بيكاسو.
كتب الشاعر الشيلي فيسينتي اودوبرو “بيكاسو إسباني وبرتغالي وفرنسي وعربي وهولندي وفينيقي. هو الشرق والغرب. هو الشمال، هو الجنوب. لا تختزله أية جنسية”. وربما أضفنا أو أي فن.