لندن ــ فيصل عبد الله
حرب أفغانستان انتقلت إلى الشاشة مع “الفرقة التاسعة”. فيلم فيودور بوندارشوك استُقبل بحفاوة في روسيا، وهو مرّشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي في أميركا التي يطلق سهامه ضد إدارتها وغزواتها المتهوّرة للعالم

“أُقتل أو تُقتَل” هوليووديّاً في جبال أفغانستان

قاربت السينما الأميركية حروب الولايات المتحدة في أكثر من مكان، من حرب فيتنام مروراً بالحرب العالمية الثانية والصفعة اليابانية في بيرل هاربر وصولاً الى ما يُعرف بـ «الحرب على الإرهاب». وجاءت تلك المقاربات متفاوتة في قراءاتها السياسية والأخلاقية. ومثلما اقتفت بطولة الجندي الأميركي في «إنقاذ الرقيب راين» لستيفن سبيلبرغ، فإنها ضربت في صميم العقيدة العسكرية الأميركية في «Full Metal Jacket» للراحل ستانلي كوبريك و«القيامة الآن» لفرانسيس فورد كوبولا و«الفصيل» لأوليفر ستون. وكان للعراق حصة من تلك الأفلام من بينها «الملوك الثلاثة» لديفيد رسل و«شجاعة تحت النار» لإدوارد زويك. في ذلك الوقت، بقيت السينما الروسية بعيدة عن متابعة التدخّلات العسكرية لدولتها، وما حصل لها في المجر عام 1956 عندما قلبت نظام الحكم هناك، وكرّرته في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 أو ما يعرف بـ «ربيع براغ» لأنها كانت خاضعة لمقص الرقيب.
وها هو فيلم “الفرقة التاسعة” للمخرج الروسي الشاب فيودور بوندارشوك، ينجح في تحقيق أرقام قياسية في شبّاك التذاكر في روسيا، ترافقه ضجة إعلامية لم يظفر بها فيلم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي... ما حدا به الى الترشّح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار لهذا العام. وعلى رغم أنّه ليس أول فيلم يقارب الحرب السوفياتية في أفغانستان، إذ سبقه مثلاً فيلم “الانهيار الأفغاني” (1990) لفلاديمير بورتكو، الا أنّ “الفرقة التاسعة” كان أول فيلم عن الحرب يحقّقه مخرج روسي (بلغت كلفته تسعة ملايين دولار أميركي) شبيه تماماً بالإنتاجات الأميركية الضخمة التي تناولت حرب فيتنام. عرف المخرج بوندارشوك كيف يقترب من تلك السينما موظِّفاً أفضل ما فيها، ومبتعداً عنها في الوقت عينه عبر استحضار الماضي القريب لبلده. هكذا، يستحضر ذاك الصراع الذي استمرّ تسع سنوات، عندما دخلت القوات السوفياتية لدعم الحكومة الأفغانية ضدّ المجاهدين الذين دعمتهم الولايات المتحدة في وجه المدّ الشيوعي. كأنّ بوندارشوك أراد بذلك القول إن كانت أميركا قد توّرطت في وحول فيتنام، فإنّ جبال أفغانستان وصحاريها هي “فيتنامنا” الروسية.
لم يقارب المخرج ذلك الفصل الدامي بحكم أخلاقي أو سياسي، بل أراد لشريطه الوقوف الى جانب الجندي الروسي في حرب لم يخترها هو. فالحرب، وخصوصاً تلك التي تشنّها القوى الكبرى، يسهُل إشعالها لكن يصعُب أيضاً التحكم بنتائجها. وفي هذا السياق، تصبح لعبة الموت أقرب الى الصفقة التجارية، قد يكون ثمنها سياسياً أو اقتصادياً... ولعل هذه النقطة بالذات كانت وراء النجاح الجماهيري لشريط “الفرقة التاسعة” الذي دفع بقوة الى الواجهة ذلك الفصل الدامي، فاتحاً كوةً في ملفّ معقد.
صُوّر الجزء الأول من “الفرقة التاسعة” بالأبيض والأسود في جمهورية أوزبكستان وموسكو. ومن خلال مجموعة شباب استُدعوا من سيبيريا لأداء خدمة العلم، يأخذنا من بداية رحلتهم، لحظة توديع ذويهم وصولاً الى إخضاعهم للتدريب القاسي في معسكرات جمهورية أوزبكستان. بعدئذ ينتقل الى الجنوب الشرقي من أفغانستان، وتحديداً الى ولاية خوست. وبما أنّ المخرج نسج حبكته مرتكزاً الى قصة حقيقيّة عاشتها “الفرقة التاسعة”، نتابع ما حصل لها في ذلك اليوم من أيام كانون الثاني (يناير) عام 1988. يضع المخرج ثقل شريطه الدرامي على المعركة الأخيرة، لأنها معركة لا يكون للجسد فيها سوى معنى واحد “أُقتل أو تُقتل” حسب قول الضابط خوهول الذي أدّى دوره بوندارشوك. يبلغ التصاعد الدرامي ذروته في تلك المعركة على قمة جبل في أفغانستان، حيث يجد الجنود الروس أنفسهم في مواجهة المجاهدين الأفغان الذين يتفوقون عليهم عدة وعتاداً. في هذه المعركة الحاسمة، استعار المخرج الكثير من توابل السينما الأميركية. إذ تجاوزت الخسائر البشرية التي تكبدتها القوات الروسية الـ17000 ألف مجند وضابط على مدى السنوات العشر، ما عجّل في إنهاء المهمة لكن بعد فوات الأوان حيث ترنّح الاتحاد السوفياتي برمته بعدها بقليل.
كتب النصّ السينمائي يوري كوروتكوف، وجاءت الحوارات لمّاحة تلامس صميم الأشياء فيما وضع المخرج على ألسنة ضباط تلك الفرقة جملاً معبّرة عن هدف مهمة الجنود. وبما أنّهم لا يعرفون مهمتهم، فإن جوابهم كان “لأداء واجبنا الأممي ومساعدة الشعب الأفغاني على دحر المعتدي الإمبريالي”. وهنا يتبادر الى الذهن التعبئة الايديولوجية للإدارتين الأميركية والبريطانية لعقول جنودهما في أفغانستان والعراق عن أنّ وجودهم في هذه البقع الساخنة، سوف يقضي على بؤر الإرهاب ويسهم في بناء الديموقراطية في هذه البلدان. وفي مقطع آخر يجمع المخرج التهكم مع محنة المصير الشخصي فيأخذ شكل البوح العلني “لم يتمكن أحد من غزو هذا البلد”.
تميز فيلم “الفرقة التاسعة” بصياغة بصرية حاذقة، وظّف فيها المخرج أفضل ما قدمته السينما الأميركية في ميدان الفيلم الحربي. وقد يكون لنشأته الفنية الأثر الأكبر في خوض هذا المشروع الضخم. إذ إنّه ابن سيرغاي بوندارشوك أحد قامات السينما السوفياتية وصاحب «قدر إنسان» الحائز جائزة أوسكار (1959) وملحمة «الحرب والسلام» المقتبس عن عمل لتولستوي، وهو مثلما استحضر فصلاً دامياً من فصول الحرب التي مهّدت عملياً لحرب الشيشان، فإنّ فيلمه جاء نوعاً من فيتو سينمائي روسي على مغامرات البيت الأبيض وداونينغ ستريت وغزواتهما.