بيار أبي صعب
“الكلمات لا تقتل... البشر هم الذين يقتلون” تلك كانت خاتمة المشهد الأخير من مسرحيّة مي غصوب “قتلة الكتاب” في بيروت قبل أقلّ من عام. يومها جاءت الناشرة والكاتبة والفنانة اللبنانيّة من لندن، جمهوريّتها الفاضلة، لتشارك في “الموسم المسرحي” بدعوة من “زيكو هاوس”. قدّمت على خشبة “مارينيان” أحد تلك العروض التي تملك سرّها: مزيج من لغات وتقنيات ومراجع جماليّة وأدبيّة، مصوغة في قالب تجريبي (وتغريبي) تمتد جذوره في أرض الفن المعاصر.
كان الموعد الأخير لمي مع مدينتها القريبة ــ البعيدة: عمل يختصر علاقتها المركّبة بقضايا أخلاقيّة وجماليّة عدّة، ويقول خوفها من الهمجيّة والتوتاليتاريّة: ذلك الخوف الذي نلتقيه بأشكال مختلفة بين ثنايا نصوص وعروض عدّة تحمل توقيعهاوالعرض الذي يسائل الذكورة (أحد المواضيع الأثيرة لدى مي غصوب الباحثة) وعلاقتها بالعنف، مستعيداً ديكور حرب أهليّة، في مكان ما، افتراضي، بين ساراييفو وبيروت، جاء أشبه بصفعة للجمهور اللبناني الذي لم يكن يعرف “كل الخير” الذي ينتظره في الأشهر (والسنوات؟) الآتية. اليوم بوسعنا أن نقول إنّه كان العرض ـــ الوصيّة!
هل كانت مي تخاف من موتها الخاص أيضاً؟ «أم مشاريع» الحاضرة بشكل متعِب أحياناً في مختلف مجالات الفن والإبداع والنشر والتنشيط الثقافي، قد لا تأتي مجدداً إلى بيروت، لتساهم في الإشراف على نشاطات «دار الساقي» (التي أطلقتها مع حفنة من الأصدقاء/ الشركاء) في «معرض الكتاب»، أو لتشارك في ندوة صاخبة عن “الموسيقى والرقابة في العالم العربي والإسلامي”، فنتخاصم معها في صلاحيّة الاحتكام إلى السوق وحدها في تحديد القيمة الفنيّة للعمل الغنائي! لكن مي التي دافعت يومذاك عن هيفا وأخواتها، هي نفسها التي تسمع Led Zeppelin آباء الـ“هارد روك” والـ“هافي ميتال”، وتتذوّق من موقعها الخاص أم كلثوم فتستوحي منها منحوتاتها، فيما حازم صاغيّة، رفيق دربها (في علاقة فريدة وخاصة تستحقّ أن تدوّن ذات يوم)، يكتب «الهوى دون أهله» في هجاء كوكب الشرق.
وربّما كانت هذه المرأة الغريبة التي جمعت بين النحت والرقص الشرقي، وأشياء كثيرة أخرى، هي أول من اكتشف ناتاشا أطلس وأمازيغ كاتب ياسين وكثيرين غيرهما. ذلك أنها كانت تشمّ الاتجاهات الجديدة والموضة و“الصرعات”، ترصدها وتلتقطها قبل الآخرين. من هنا كتابها “ما بعد الحداثة، العرب في لقطة فيديو” (الساقي ــ 1992). إنّه محاولة خجولة وناقصة ــ لكن تأسيسيّة ــ تقترح مقاربة نقديّة جديدة لأعمال وتجارب (من لوحة محمد الروّاس إلى قصيدة عبّاس بيضون... مروراً بفادي أبو خليل)، تأخذ بالاعتبار معطيات عصر تتجاور فيه الحقبات والمراجع وأشكال التعبير والثقافات والمدارس الإبداعيّة.
كل الذين عرفوا مي غصوب عن قرب، وخصوصاً في لندن، مسرح عمليّاتها، يعرفون انحيازها إلى ثقافة “الزائل”، الثقافة الحيّة التي تُخترع الآن تحت أنظارنا. هل هذا تحديد ممكن لـ“الطليعيّة”؟ هل تلك النزعة كانت طريقها إلى الفنّ المعاصر، هي التي جاءت لندن “بالغلط”، لإقامة عابرة، ذات يوم من أيّام الحرب الأهليّة اللبنانيّة، فصارت من معالمها العربيّة، وأطلقت مع كنعان مكيّة وأندريه غاسبار وآخرين مغامرة ثقافيّة اسمها “الساقي”، هي اليوم من أعرق دور النشر العربيّة، مستقطبةً الأعمال الجريئة والسجاليّة والممنوعة (الأدب السعودي تحديداً)؟ كان من المستحيل حتّى مساء الجمعة الماضي أن يقام معرض في لندن، أو يقدّم عمل مسرحي، أو يصدر كتاب، أو ينطلق فيلم، أو يفتتح مكان ليلي على الموضة... إلا وتعرف به مي غصوب قبل الجميع، وتروح تقترح عليك، حسب اهتماماتك، مفكّرة حافلة ومنوّعة في مجاهل لندن الثقافيّة والوجوديّة. هذه المدينة الكوسموبوليتيّة التي اصطفتها ملجأً روحياً حتى تماهت معها بالنسبة إلى كثيرين. تماهت مي غصوب مع لندن، وذابت فيها. ها هو طيفها في كوينزواي وبورتوبيلو وناتينغهيل غايت. لا بدّ أن تلتقيه في الطريق إلى “كوين إليزابيت هول”، أو ICA ،Tate Moder وغيرها...
من النشر إلى الكتابة والبحث، من النحت إلى المسرح، من يسار (بورجوازي فرنكوفوني) في لبنان عشيّة الحرب... إلى براغماتيّة تجاهر بخيارها “الليبرالي” في بريطانيا عام ألفين، ومن “نسويّة” السبعينيات إلى “ذكوريّة” تخوض في المختبرات الثقافيّة التي تصنع فيها “الرجولة”، كما تتجلّى في كتاب “الرجولة المتخيلة ــ الهوية الذكرية والثقافة في الشرق الأوسط” (أعدّته مع إيما سنكلير ويب، الساقي ــ 2002)، وقبله “المرأة العربية وذكورية الأصالة” (الساقي ــ 1990). عاشت مي غصوب بصخب، بين رجال ومدن ولغات وثقافات. دائماً نفسها، تعلّمت من الممارسة، من مجاورة مثقفين كبار، ومبدعين لا يملكون إلا قلقهم. إنها نساء في امرأة، ومشاريع معلّقة لن تنتهي على الأغلب. لقد فاجأتنا مي بموت عادي جداً في مستشفى لندني. موت أبله كأنّه أحد العروض التجهيزية التي كانت تخطط لها. كلا ليست performance للأسف. وسيمضي وقت طويل قبل أن نقتنع بفكرة غيابها...