رنا حايك
التقاط القنوات الفضائيّة في لبنان من الطقوس الغريبة التي لا تخضع لأي منطق أو قانون. والمشاهدون تحت رحمة موزّع «الاشتراكات» الذي يتحكّم في اختيار المحطات، وتحديد الروادع والمعايير «الرقابيّة»... جولة في أدغال الـ «ساتلايت»

يلجأ معظم اللبنانيين إلى الاشتراك في مكتب توزيع القنوات الفضائية (الكابل)، في الحيّ الذين يقطنون فيه، رغبة في توفير التكاليف التي سيتكبدونها في حال اعتمادهم أسلوب الاشتراك الشرعي في خدمات الصحن اللاقط، من خلال الشركتين الشرعيتين في لبنان:CABLE VISION وECONET. إلا أنهم، عبر لجوئهم إلى هذه المكاتب، يتنازلون جزئياً عن حرية اختيار القنوات التي يرغبون بمشاهدتها. إذ إنّ عملية انتقاء المحطات تخضع غالباً لمعايير أصحاب المكاتب الدينية والثقافية وحتى انتمائهم السياسي، إضافة إلى رؤيتهم الخاصة للقنوات “الجيدة” و“الأكثر طلباً”.
وفيما يشكو المشتركون في خدمات مكاتب الدشّ، وفي مختلف المناطق اللبنانية، من رفض أصحاب هذه المكاتب بثّ القنوات التي يطالبونهم بها، يؤكد هؤلاء أن المعيار الأساسي في عملية الانتقاء هو: ما يطلبه المشاهدون!
دانيال الذي يسكن منطقة الحدث، يهوى الموسيقى الكلاسيكية، وبعدما تكرّر طلبه ببث قناة “ميتزو”، كافأه صاحب المكتب بأن قدمها ليوم واحد فقط، قبل أن يبدّلها بقناة “إسكال” السياحية.
أما فادي، صاحب أحد المكاتب في حي اللجا، فقد آثر الانصياع لرغبة “الجنس الناعم”، كما سمّاه، حتى يرحم نفسه من “النقّ”. هن يشكّلن الجمهور الأوسع في المنطقة: مراهقات وربّات منازل لا يكللن من مشاهدة قنوات الأفلام والمسلسلات العربية. لذا، يحرص فادي على تزويد منازل المنطقة بالقنوات التي تقدّم هذه الخدمة، على رغم اعترافه بأن هناك من طالبه ببثّ “الجزيرة الوثائقية”، ولكن بنسب أقلّ. وهو لم يوزعها، لأنه في النهاية لا يستطيع إرضاء الجميع”.
وعلى رغم أن عدد القنوات الفضائية يفوق الـ 500، تنحصر إمكانات المكتب بتشغيل حوالى ثمان وتسعين قناة تقريباً. لذا، يصبح الاستنساب هو القاعدة. هذا ما أكّده علي، صاحب مكتب لتوزيع القنوات الفضائية في قريطم: “نحاول إرضاء جميع الطلبات بقدر ما نستطيع، إلا أن هناك ضرورات... نحرص مثلاً على تقديم القنوات الهندية لأنها موجّهة للمستخدمين في منازل المنطقة”.
الانتماء الثقافي يلعب أيصاً دوراً مهماً في التحكم بنوعية القنوات المختارة. وعلى رغم تأكيد طوني، صاحب مكتب في منطقة الجميزة، بأنه “يبثّ القنوات المطلوبة” و“لا يفضّل القنوات الأجنبية على الأخرى العربية”، يشير سكّان الحي إلى أن عدد المحطات الأوروبية، الفرنسية خصوصاً، يفوق عدد تلك التي تبث الأفلام والمسلسلات العربية.
وبخلاف الجميزة، يلجأ مرتضى، صاحب مكتب في حيّ السلم، إلى قطع إرسال قناة الأفلام الأجنبية (“موفي تشانل” و“سوبر موفيز”) بمجرّد أن يمرّ مشهد إباحي. وهكذا، يمنع الانقطاع المفاجئ المشاهد من متابعة الفيلم، وحتى مشاهدة المحطة لبضعة أيام لاحقة.
هذا الرادع الديني والأخلاقي ذاته يمنع طارق، صاحب مكتب في منطقة الطريق الجديدة، من بثّ القنوات الإباحية، ولكن مع بعض الاسثناءات. إذ يعوّض أخوه عمر، صاحب محل السمانة المتاخم، عن هذه الخسارة، بتأجير “البلحة” التي بمجرّد وصلها بالتلفزيون، تلتقط ذبذبات القناة المحظورة.
إلا أن الرادع لا يقتصر على المعطيات الأخلاقية والدينية فحسب، وإنما تدخل السياسة الساحة من بابها الأوسع. ويزيد تحوّل القنوات اللبنانية إلى “متاريس” سياسية وحرص عدد من الفضائيات الأجنبية على أن تكون ناطقة باسم حكوماتها، الموقف تعقيداً. كلنا يذكر مثلاً كيف قوبل إقفال مكاتب قناة “المنار” في فرنسا عام 2005 بإلغاء أصحاب المكاتب في الضاحية الجنوبية قناة “تي في 5” عن جدول القنوات التي يزوّدون بها سكان المنطقة. أسلوب المقاطعة ذاته اعتمده أصحاب هذه المكاتب بعدها بفترة تجاه قناة “إل بي سي” عام 2006، بعدما تعرّض برنامج “بس مات وطن” لشخص الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
لكن فادي، صاحب مكتب حي اللجا، يؤكد أنه: “محكوم بالمنطقة، حتى لو كنت أنتمي إلى جهة سياسية معينة، لا أستطيع منع القناة التابعة للفريق الآخر، لأن سكان المنطقة ينتمون إلى جميع الأطياف السياسية”. فادي يشكّل استثناءً، واختيار القنوات مهما مورس بديموقراطية يظل حكراً على صاحب المكتب. في هذا الإطار، ربما يجدر البحث عن الحلّ في مكان آخر، يؤمن علاجاً لأساس المشكلة: القرصنة. فهل في تجنّبها خسارة مالية فادحة؟ ذلك موضوع آخر...